تعليق سينما
المنذر الدمني

«قتلة زهرة القمر»

فيلم سكورسيزي في ضوء الحرب على غزّة

17 آذار 2024

حضرت الحرب على غزّة في حفل الأوسكار هذا العام، مع حضور كبير لمطالب الفنانين بوقف إطلاق النار، وترشيح أفلام تدعم «سردية المظلوم». إلا أن فيلم أوبنهايمر هو مَن حصد الجوائز في النهاية، وهو الفيلم الذي يعزّز السردية الأميركية بشأن الحرب النووية على اليابان. وغابت الجوائز عن فيلم Killers of the Flower Moon للمخرج الأميركي مارتن سكورسيزي الذي أثار الكثير من النقاشات الأخلاقية بتصويره سردية المظلوم.

يقدّم سكورسيزي في فيلمه «قتلة زهرة القمر» (Killers of the Flower Moon) صورةً آسرةً للعنف التاريخي والغموض الأخلاقي لممارسات «المستوطنين البيض» تجاه السكان الأصليين عبر اقتباسه رواية الكاتب ديفيد غران التي تحمل الاسم نفسه، وتسرد أحداثاً حقيقية لما حدث لقوم أوساج في أوائل القرن العشرين من عنف ممنهج بهدف سلب حقوقهم في النفط.

نبذة تاريخيّة للصراع

يشكّل صراع المستوطنين البيض مع السكان الأصليين الصراع الأهمّ في التاريخ الأميركي الذي يملأه الغموض وغياب الحقائق. فقد قامت الحكومة الأميركية بطرد الكثير من قبائل السكان الأصليين إلى ما يسمّى بالمحميّات، وهي أراضٍ غير قابلة للعيش حسب معلومات الحكومة آنذاك. ولكن مع بدايات القرن العشرين، تكتشف قبيلة أوساج المهجَّرة إلى أراضي أوكلاهوما آباراً للنفط، ما جعل منها القبيلة الأكثر ثراءً في العالم في ذلك الوقت. 

دفع ذلك الكثير من المستوطنين البيض للقدوم إلى أراضيهم طمعاً بالثروة، مستغلّين قانوناً عنصريّاً يفرض وصايةً من «الرجال البيض» على أموال وأسهم قوم أوساج باعتبارهم بحسب القانون «فاقدي الأهلية». ومع قدوم المستوطنين، بدأت جرائم قتل ممنهجة لأفراد القبيلة، ولم يتمّ التحقيق فيها لفترة طويلة، بسبب تواطؤ النظام الأمني مع رغبات مرتكبي الجرائم ومصالحهم.

حكاية الفيلم

تبدأ حكاية الفيلم في عشرينيات القرن الماضي مع شخصية تدعى ويليام هيل الملقّب بالملك (يلعب دوره روبرتو دي نيرو)، وهو رجل أميركي أبيض محبوب من قبل قوم أوساج، ولكن سرعان ما نكتشف أنه هو العقل المدبِّر والمحرِّك الأساسي لكلّ حركات التطهير العرقي التي تقام بحقهم، بغية وراثة حق الوصاية على الأسهم بعد زواج فتيات القبيلة من قبل مستوطنين بيض. يمارس ويليام هيل هذه الجرائم عبر ابن أخيه أرنست بوكهارت (لياناردو دي كابريو) الذي يقع في حب فتاة من أوساج تدعى مولي (ليلي جلاديسون)، ويشارك أرنست في هذه الجرائم بسبب حبه للمال والسلطة وبسبب سيطرة عمّه الواضحة عليه وعلى آلية تفكيره، فيعيش صراعاً أساسياً بين واجب رضوخه لعمّه وحبّه لزوجته وندمه لما يفعل بها وبأهلها، ولكنّ هذا الحبّ لم يمنعه من ممارسة أيّ من الجرائم، إنما دفعه بالنهاية إلى الاعتراف بكل ما فعله.

ينبغي الإشارة إلى أنّ حكاية أرنست تبدأ في الفيلم بعد عودته من الحرب العالمية الأولى، لنرى بذلك أثر الحرب على خلق شخصيات عنيفة راضخة للسلطة التي تتمثل في دور «الملك» ذي الصورة المزدوجة (العنف الخفي- والمناصر الحقوقي). وفي المقابل، تمثّل شخصية مولي صوت وصورة أصحاب الأرض ومعاناتهم وصراعاتهم وضرورة استمرار مقاومتهم.

ثالوث الحكاية

يقدّم سكورسيزي حكايته عبر مثلّث السلطة- ممارسي العنف- أصحاب الأرض، والعلاقة المعقّدة التي تتجلّى بصراعاتٍ إنسانيةٍ تحتاج إلى قوّة كبيرة وتفكير عميق لكشف الحقيقة واتخاذ موقف واضح في ظلّ غياب أطراف صراع واضحة. وهو مثلّث موجود في تحليل أي نظام يمارس قمعاً منهجياً تجاه مجموعة من البشر. وبإدراك هذا المثلث وسيرورته في ممارسات العنف، يمكن تحليل مفردات وخصوصيات أي ممارسة عنيفة نراها اليوم من قبل سلطة أو نظام تجاه مجموعة من البشر.

كذلك يطرح الفيلم تواطؤ النظام الحاكم مع الجرائم الغامضة التي تحدث، كما لو أنّ قتل هؤلاء الناس هو قرار متفق عليه، يقدّم تكلفة بشرية على صعيد التطهير العرقي وعلى صعيد أثر الفقدان عند الناجين الذين يموتون دون معرفة السبب، ضمن تواطؤ يجعلهم يشعرون أنهم يموتون بصمت مطبق، يولّد لديهم صدمات عاطفية تترك ندبات إلى الأبد، كما حدث مع مولي.

وقوع حكاية سكورسيزي في تناقضات سردية الرجل الأبيض

ساهم عدم حصول الفيلم على جوائز في حفل الأوسكار في تقديمه على أنه لا يتوافق مع السردية السلطوية الأميركية، إلا أن الفيلم تعرّض بعد عرضه لعدّة انتقادات تتمحور حول «الصورة الضعيفة» التي أظهر فيها سكورسيزي شعب أوساج، ما أشعل الرأي ضدّه بأنّه رجل أبيض آخر يستغلّ القضية ليجني فوائد شخصية. ومِن أهمّ من انتقد الفيلم الممثلة الكندية ديفيري جاكوبس التي انتقدت طريقة سرد الحكاية من منظور أرنست بوركهات، كما اعتبرت أن الشخصيات البيضاء صُوِّرت بعمق إنساني أكثر من شخصيات قوم أوساج الذين بدوا منتظرين لإنقاذ الرجل الأبيض لهم. كذلك انتُقِدت قصّة الحبّ التي تبدو حقيقية بين أرنست ومولي، لجهة أنّ هذا التركيز قد يُبعِد النظر عن ثنائية المُعَنِّف والمُعنَّف.

جاءت هذه الانتقادات بالرغم من أنّ سكورسيزي أعاد كتابة الفيلم أكثر من مرّة، مكسِّراً طريقة السرد في الرواية التي تركّز على نشوء مكتب التحقيقات الفيدرالي وتسرد الحكاية من وجهة نظر المحقّق، فجعل الحكاية أبعد ما تكون عن فكرة «المنقذ الأبيض» وحرص على سرد القصة من وجهة نظر أصحاب الأرض بطريقة شفافة. وبحسب النقاد، سيشكّل هذا الفيلم علامة فارقة في صناعة الأفلام في هوليوود، حيث سيفتح المجال لكثير من المخرجين من السكان الأصليين لتقديم حكاياتهم الأصيلة التي غُيِّبَت عن السينما خلال كل هذه العقود. لكن هل على المخرجين الكبار فتح المجال لأصحاب الحكاية بقصّ حكايتهم أم يجب عليهم استغلال موقعهم لإنتاج قصص منسية ومغيبة وفتح أفق صناعة جديد؟

ردّ سكورسيزي على الانتقادات بشأن صراع أرنست بوركهات الأخلاقي، فحرص- بحسب تعبيره- على أن يقدّم صورة حقيقية عن «الشرير» لأنه «أنا وأنت، إنه نحن». فقد أراد تقريب صورته إلى المتلقي والتفكر بموقعنا والأفضلية التي منحها التاريخ للناس في تلقي الحكايات وإعادة صياغتها. بدورها، أشارت الممثلة ليلي جلادسون (لعبت دور مولي) إلى أنّ طبيعة القصة صعبة ومعقدة والحب بحد ذاته معقد، «جميعاً أحببنا أشخاص غير جديرين بالحب». أمّا بشأن المخاوف من أن تغطّي قصة الحب في الفيلم على القضية الأساسية، فما قصة الحب إلا عنصر من عناصر الحقيقة التي استخدمها سكورسيزي ليصوغ حكاية إنسانية بالدرجة الأولى تخوض في تفكيك سردية العنف وسيكولوجية المُعنِّف. فقد اعتقدت ماجي بوركهات، حفيدة مولي بوركهات، أن أجدادها كانوا في حالة حب حقيقية. 

التشابه مع حرب غزّة

ثمّة أوجه شبه بين حكاية الفيلم وما يحدث اليوم في غزة على أكثر من صعيد، من أساليب التطهير العرقي والسيطرة على الأراضي، إلى التواطؤ العالمي مع جرائم الاحتلال، والصورة «البيضاء المتحضّرة» التي تحتمي خلفها السلطة. فبتقديم الفيلم وثيقةً عن إرث العنف المسيطر على تاريخ وحاضر أميركا، نرى أيضاً الإرث العنيف المماثل لماضي إسرائيل وحاضرها، وما يخلقه من أساليب مقاومة أصيلة وفعالة، وكيفيّة حفظ سردية أصحاب الحق، وتفكيك سردية السلطة القامعة. ولعلّ تقديم الموضوع على شكل وثيقة تاريخية وإشكالية أخلاقية بعيدة عن إيديولوجيا أو رأي سلطوي، يجعلنا نفهم دور السلطة في السيطرة على بشر يقومون بممارسات عنيفة مباشرة أو غير مباشرة.

ولكن اليوم، وفي ظلّ حربنا الخاصة وتشابه الحكاية الفلسطينية مع حكاية الأوساج ومع جميع حكايات الشعوب التي تتعرّض للقمع، يجب أن نسأل عن استخدامنا لفيلم أميركي لا يُعتبر ثورياً أو يقدّم خطاباً معارضاً سائداً. فرغم حرص سكورسيزي على عدم الوقوع في فخ «المنقذ الأبيض»، فإنّ الفيلم يمكن أن يُصنَّف في فخ «الصورة البيضاء المتحضّرة» التي تدعو للمصالحة مع الماضي العنيف بهدف خلق حاضر أفضل، وهذا ما يعود بنا لنقطة البداية بأنّ لا مكان لكلّ سرديات المظلومين إنما هناك مكان لسرديات المظلومين التي تروى من قبل صناعها «البيض»، وهذا ما نراه في ظل القتل الممنهج للصحافيين الفلسطينيين، وحجب أي محتوى يدعم القضية الفلسطينية، أو حرمان الكثير من المثقفين الفلسطينيين من جوائز عالمية في ظل الإبادة الجماعية.

الفنّ الذي يقدّم صورةً تاريخيةً واضحةً عن القضية الفلسطينية اليوم موجود وبكثرة، ولكنه مغيَّب عن المشهد العالمي. ولعلّ علينا التفكير به أوّلاً، بعد تركيزنا الكلي على وقف الإبادة الحاصلة، بهدف خلق خطابٍ وأسلوبٍ مقاوم يكون أبعد من دعمنا لحماس أو إدانتنها، خطاب مبنيّ على تفكيك الخطاب السلطوي وفهم سردياته الفكرية التي يخلقها الاحتلال ويدسّها في صراعاتنا اليومية، خطاب يجعل حتّى نقدنا لأساليب مقاومتنا أصيلاً يكمل موقفنا وينقله إلى مستوى فكري يعبّر بالدرجة الأولى عن الإنسان بكل تناقضاته ومستوياته، ويحفظ حكايتنا على أنها حكاية إنسانية مُحقّة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان