تحليل إعلام
سامر فرنجية

قلق وعجز وغضب وكره وصورهم

31 تشرين الأول 2024

الزمن الجميل والبطيء لحروبنا القديمة

كنّا طلابًا في الجامعة، نحضّر معرضًا عن الحرب الأهلية في زمن العفو العام والإعمار والنسيان. لم يكن هناك العديد من الصور المتداولة عن هذه الحرب، وكان علينا البحث عنها في أرشيف الصحف. لكنّنا كنّا مصرّين أن نعرض أفظع ما كنّا نجد، كان هناك شيئًا من «الحشرية» في رؤية صور لما عشناه كأطفال. فالحرب الأهلية كانت «لا مرئية» إلى حدٍّ بعيد، نسمع عنها أكثر ممّا كنّا نراه. بعد بضع ساعات على افتتاح المعرض، جاء عناصر من مخابرات الجيش للاطّلاع على المعرض. كان زمن «العفو العام» ورغبة النسيان، والصورة ما زالت تزعج. اختاروا صورة من المعرض، وطلبوا منّا أن نزيلها. كانت صورة لمجزرة حماه. كنّا ما زلنا بزمن العنف الذي يخشى الصورة. فأزلناها.

ربّما كانت التسعينات آخر لحظة كانت الصورة فيها ما زالت نادرة، وربّما لهذا السبب، كانت لا تزال سياسية. كان معرض عن الحرب الأهلية يزعج السلطات، وفيلمٌ يُمنع لأنّه يهدّد السلم الأهلي، والأرشيف يُسَيطر عليه لأنّه قد يزعزع ثقة النظام بالنسيان. كانت الصورة ما زالت تؤكّد وقوع الحدث، والحصول عليها دليل فاضح عن مستور السلطة. كنّا نريد أن نتذكّر وسلطة السلم الأهلي تريد أن ننسى، ألّا نرى، ربّما إيمانًا منها بأنّ «المصالحات» أسهل إذا لم يكن هناك صورة عن فظائع الماضي. 

كانت سلطة السلم الأهلي ساذجة، وكنّا أيضًا ساذجين، في صراعنا حول الصورة. وكان هذا الصراع يدور بزمن بطيء، يحتاج فيه الخبر، مهما كان شنيعًا، لساعات قبل أن يصل للناس، ملطّفاً بالخطاب الخشبي لوسائل الإعلام. كان لدينا الوقت لهضمه، والبحث عمّا نشعر. ربّما هناك الكثير من الرومانسية في هذا الاستذكار، وذلك يعود إلى تحوّل الصورة في زمننا الحالي، تحوّل لم يكن فقط باتّجاه دمقرطة الصورة، بل باتّجاه تحويلها إلى مصدر للعنف.

كنّا نقتل بعضنا بعضاً في الماضي، لكن ببطء. أصبحنا كلّنا في وسط المجزرة. وهذا بحد ذاته عنف.


القلق، أينما كنّا

شاشات تلفزيون مقسومة إلى شاشتين وصولًا إلى أربع شاشات أو حتّى ستة. تحتها، شريط خبر عاجل أحمر، لا ينتهي من دلق أخبار مستعجلة. في الاستوديوهات، معلقين بالجملة لا ينتظرون ثوان قبل «تفسير» الحدث. خارجها، صور عن مجازر حصلت أو كاميرات تنتظر حدوثها.  

لم نعد في الزمن البطيء، بل صرنا في زمن «المباشَر». المُشاهد لم يعد يقبل بأقلّ من إعلامه فورًا بما يجري. كل الأخبار باتت عاجلة، تحتاج إلى تأهّبٍ دائم. وعلى الصحافيين الاستعداد لأخذ قرارات عمّا يبثّ بأقلّ من دقيقة. أيّ حادثة باتت تدخل دائرة اهتمامنا كمشاهدين في لحظة حصولها، مع مطالبةٍ، أو حتّى أمرٍ للمُشاهد بأنّ يتلقّاها بحالة من التأهّب العصبي. مجزرة، ردّ إيراني، تصريح، قصف، زيارة دبلوماسية، نتائج انتخابات، حوادث العالم كله تنغز في جهاز عصبي، أصلًا بدأ ينهار، لتخلق حالة من القلق الدائمة، أينما كنّا، مهما كنّا بعيدين عن الحدث. 

القلق هو المرادف العصبي لتقنية البث المباشر. 


العجز، إخراج الدمار

صورة ثابتة لمبنى قرب دوّار الطيونة. نرى فيها مبنىً طبيعياً، وعلى بعد عشرات الأمتار، عدد من الكاميرات المثبّتة تنتظر. بعد نحو ربع ساعة، يسقط صاروخ على البناية، لتنهار بأكملها. كان الجيش الإسرائيلي قد حذّر سكّان المباني المجاورة، ما أتاح للإعلام تثبيت كاميراته وانتظار اللقطة. كانت لقطةً جميلةً. بعد انهيار المبنى، أخذ الإعلاميون معدّاتهم وذهبوا نحو هدف جديد.   

كان تطور الإعلام، أكان تقنيًا أو مؤسّستيًا، يحمل في طيّاته وعدًا بعالم أكثر انفتاحًا ومحاسبة. أن تصبح المعلومات متاحة للجميع والحقائق مكشوفة بلحظة حصولها، فذلك من أُسس عالم أكثر ديمقراطية وشفافية. لكنّ هذا التطور أدّى إلى إحساس آخر، شبه معاكس، وهو إحساس العجز. ففي عالم بتنا نعرف فيه أكثر بكثير مما كنّا نعرف بالماضي، يتحوّل فشلنا في تغييره إلى تفاقمٍ في الإحساس بالعجز. «لو كنّا نعلم» جملة غير متاحة لنا، نعلم ولكن لم يتغيّر شيء. وحربنا الأخيرة ليست إلّا برهانًا على هذا العجز. فبتنا نعرف عن المجازر والتدمير قبل حصولها، بات لدينا الوقت للإخلاء ومن ثم وضع الكاميرات والانتظار. لم نعد في زمن المباشر، بل أصبحنا في زمن أسرع بعد، زمن المعرفة ما قبل وقوع الحدث. 

العجز هو المرادف العصبي للمعرفة الدائمة.


صناعة الغضب

استوديو ما زال فارغًا من ضيوف الحلقة. مقدّم البرنامج ينظر مباشرةً إلى الكاميرا، لوحده في الاستوديو. يبدأ افتتاحيته «النارية»، يردّ فيها على أناس لا يسمّيهم خوّنوه بعد آخر حلقة، فيخوّنهم بدوره: شرف، شجاعة، مصداقية، جرأة، كرامة… صفات يطلقها على نفسه، مستنكرًا وغاضبًا ومستهجنًا. هو غاضب ولم يعد يستطيع تماسك نفسه. طفح الكيل. فأطلق غضبه «الناري». 

القلق والعجز تربة خصبة لتنامي الغضب كمحاولة بائسة للانقضاض عليهما. لكنّ الغضب يحتاج إلى من يصنعه وينمّيه ويوجّهه. فيأتي دور الموزّعين ومقدّمي البرامج، والذين منذ فترة باتوا جميعًا ينتمون إلى مدرسة «الغضب المفتعل». كيلهم جميعهم قد فاض، وفاضت معه عبارات الكرامة والشرف. افتتاحيات الأخبار باتت أقرب إلى وعظات، تفرض على المشاهدين دقائق طويلة من انهيار عصبي إعلامي، لمونولوغ يستنكر ويحذّر ويتوعد. بعد نهار طويل من القلق والعجز، يأتي الليل مع غضبه.

الغضب هو المرادف العصبي لإعلام الافتتاحيات.


وسائل الكره الاجتماعي

الصورة غير واضحة. رجال، نرى منهم أقدامهم ولمحات سريعة عن باقي أجسادهم. الكاميرا تتحرّك بسرعة  ويسود الصورة ضجيج وصريخ. المشهد بدأ من هنا، لا نعرف الكثير عمّا حدث أو يحدث. تحت أقدامهم، شاب يتعرّض للضرب، يتوسّل ويستنجد، لكنّ الجموع لا تتوقف عن إهانته وضربه. ربّما سينتهي المقطع هنا، أو سنرى «اعترافات» الشاب، أو سيُعلّق على عامود. ليس مهمًا. ينتهي المشهد والكره يطوف منه.

أصبحت الأخبار والصور التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بينها الواتس أب، من بين أهمّ مصادر المعلومات. وكما مع التقنيات السابقة، ما كان مفترض أن يجعل الحصول على المعلومات أكثر انتشارًا وديمقراطيةً، انتهى بأنّه عمّم العنف وأدخله إلى الحيز الحميم. ألاف هذه المشاهد تتنقل بين الهواتف وتُستهلك بحميمية العلاقة مع الهاتف: جموع تعتدي على ضحية، جنود يعذبون موقوفين، عسكري يبتسم وهو يفجرّ منزلاً، رجل يعنّف آخر. بات للعنف وجه، وبات هذا الوجه على هاتفنا، نراه في غرفة نومنا، بعد نهار طويل من القلق والعجز والغضب، فيخرج الكره، كره تجاه غرباء لا يجمعنا بهم إلّا بضع ثوانٍ من مقطعٍ مجتزأ. لكن نكرههم، ونحن نغفو.

الكره هو المرادف العصبي لوسائل التواصل الاجتماعي.


بالعودة إلى حربنا القديمة، البطيئة، غير المرئية. ما كان مصيرها لو وقعت بزمن وجود تقنيات التواصل والإعلام هذه؟ هل كنّا استطعنا أن نَخرج منها لو كانت أحداثها جميعها متلفزة وتُبثّ مباشرةً بكل المنازل؟ هل كانت «المصالحة»، مهما كانت هذه الكلمة مزيّفة، لو كانت كل مجازرها موثّقة على هواتفنا؟ ليس من أجوبة جاهزة لهذه الأسئلة. فهي ليست أسئلة تبحث عن إجابة بقدر ما هي محاولة لالتقاط الكم الهائل من «العنف» الذي نتعرّض له يوميًا لمجرّد كوننا مستهلكي شتّى وسائل الإعلام والتواصل. فالصورة لم تعد تمثيلًا لعنف حصل خارجه وهي تحاول التقاطه. باتت الصورة هي مصدر للعنف، لها منطقها وتقنياتها وأبواقها.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
45 شهيداً في عدوان الأربعاء 30/10/2024
قوى الأمن تطرد النازحين من الرملة البيضا
31-10-2024
تقرير
قوى الأمن تطرد النازحين من الرملة البيضا
حدث اليوم - الخميس 31/10/2024
31-10-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 31/10/2024
2,865 شهيداً و 13,047 مصاباً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان
 مختارات من الصحافة الإسرائيلية 31/10/2024
جيش الاحتلال يحاصر 20 مدنيّاً تحت الأنقاض في وطى الخيام