نقد انفجار المرفأ
سامر فرنجية

لا أريد الذاكرة أو النسيان

3 آب 2022

لا أريد أن أتذكّر 4 آب. لكن لم أنسَ أيضًا.
لا أريد أن أتذكّر 4 آب في ذكراه الثانية. لا أريد أن أتذكّر هذا النهار. لكن لم أنسَه. ليس ضروريًا، لدواعٍ دراماتيكية،  تكرار ما الذي لم أنسَه. فما لم أنسَه بات موجودًا في مكانٍ ما في ذهني مع مشاهد أخرى من القصف والاغتيالات والملاجئ والرصاص. لم أنسَهم أيضًا، ولكنّني لا أريد أن أتذكّرهم. وما من تناقض هنا. فتلك الأحداث، وغيرها، لا تنتمي لعالم النسيان والذاكرة. هي موجودة في مكان آخر، في جهاز عصبي، في رجفة صوت، في نظرة خارج نافذة، في تشنّج في الأكتاف. في هذا المكان، الأحداث لا تُنسى ولا تُذكر. هي هناك، موجودة هناك، موجودة وحسب. 


لم أنسَ 4 آب. لكن لن أحاول أن أتذكّره.
لن أحاول في 4 آب أن أتذكّر 4 آب. أنا من جيل ما بعد الحرب الذي كبر مع «واجب الذاكرة» الذي يحوم فوق ماضينا. عدوّنا كان النسيان، وعالمه المكوّن من قانون عفو، وكتاب تاريخ موحّد ومفقود، ومشروع إعادة إعمار محا ذاكرة مدينة. تذكّرت بما يكفي، حفظت كلّ مجزرة وتاريخها، كلّ معركة وضحاياها، كلّ مخطوف وصورته. وحوّلنا تاريخ «13 نيسان» إلى مناسبة لصلاة مدنيّة، مفادها أنّ حاضرنا ساقط. لكنّ هذا كله لم ينفع، وانتهينا كخوارج يتذكّرون في مجتمع قيل إنّه لم ينسَ. لا أريد تحويل 4 آب إلى محطة جديدة في هذا التاريخ.


لن أتذكّر 4 آب. لكن لن أحاول أن أنساه أيضًا.
لم أنسَ 4 آب ولا أريد نسيان هذا النهار. ربّما يعود ذلك لكون هذه الذكريات نوعاً من «الترومايات»، تعقّد علاقتي بالماضي، تكرّره وكأنّه حاضر، تجذبني إليه، وإن كان مؤلمًا. ربّما في عدم قدرتي على النسيان وعدم رغبتي بالتذكّر إشارة إلى هذه العلاقة المَرَضيّة مع الماضي، والتي تواكب كلّ من عاش «تروما» ما في حياته. لكن أدرك أيضًا أن «واجب الذاكرة» لن يشفيني. في مكان ما، لا أريد لأحد أن يعالج خربطة علاقتي مع الماضي. في هذا الانفصام المدمّر والمُشِلّ، ربّما، نوع من الرفض الضمني للتطبيع، أي تطبيع مع الواقع. أو هو مجرّد «تروما»، لا أدري. 


لن أحاول أن أنسى 4 آب. لكن أطمح إلى النكران. 
ماذا نتذكر بهذا النهار؟ أنّ «دولتي فعلت هذا»؟ فهي فعلت هذا، وأكثر أيضًا، وما زالت تفعل. يمكن إلصاق هذا الشعار بمجمل المآسي التي أصابت هذه البلاد، من الانهيار الاقتصادي إلى المقابر الجماعية، مرورًا بقوارب الموت، وصولًا إلى الحرب الأهلية. يمكن أن نختلف على مفهوم «الدولة» في هذه الجملة. أو ببساطة، نستبدلها  بـ«هم». «هم فعلوا هذا». ربّما اعتقدنا أنّ الحقيقة سوف تخيفهم، أو على الأقلّ، تخجّلهم. لكنّها باتت عبئًا علينا، تفرض علينا حالة من الانسلاخ الداخلي بين حقيقة ندركها بلا لغط وواقع سياسي فرض علينا أن نتجاهلها، إذا قررنا الاستمرار بالعيش هنا. ربّما أطمح إلى حالة إنكار، تسمح لي بالاختباء وراء غطاء ركيك من اللامعرفة، لكي لا تتحوّل الحياة اليومية إلى امتحان أخلاقي دائم. أطمح بذلك حتى يصل خبر انهيار الأهراءات ويذكّرني أنّ الإنكار غير متاح لي. 


ربّما «هم» يريدوننا أن نتذكّر.
ربّما كانوا «هم»، الذين فجروا المرفأ والمدينة، من يريدوننا أن نتذكر 4 آب. يريدوننا، ربّما، أن نتذكر في هذا النهار أنهم قادرون على تفجير مدينة والتهرّب من أي عدالة، مهما كانت بسيطة، أو حتى صورية. يريدوننا، ربّما، أن نتذكر سنويًا هذا العقاب الجماعي لمدينة كانت قبل بضعة أشهر قد نبذتهم. لا يريدوننا، ربّما، أن ننسى، حتى يتباهوا بجريمتهم المستمرّة. فعلنية الجريمة جزء من فعاليتها، وعلنية فشلنا جزء من طريقة حكمنا. يريدوننا أن نتذكر أنّنا نعيش حالة من الانسلاخ الداخلي، تخسّرنا كل يوم شيئاً من  قدرتنا، حتى الوهمية، على تمييز الصح من الغلط، الماضي من الحاضر، العدوّ من الصديق.


لا أريد أن أتذكّر أو أن أنسى. أريد فقط أن أحافظ على كرهي. 
500 كلمة ولم أستطع تحديد ما أشعر به بهذا النهار. 
لا أريد أن أتذكر. لا أريد أن أنسى. لم أنسَ. يتذكرون. نتذكر. ننسى. لن ننسى.
ربّما كان الثابت الوحيد في هذا المقال هو إحساس دفين بدأ من الجهاز العصبي في المقطع الأول ليطال «هم» في المقطع الأخير. إحساس بالكراهية الذي لا يحتاج إلى نسيان أو ذاكرة. إحساس بالكراهية، قد لا يكون سياسياً وقد لا يشفيني من خربطتي، لكنّه بات أنا، أهتم به يوميًا، أحميه ممّن يحاول ترشيده أو إصلاحه، أغذّيه كلّ يوم بخبرية جديدة، آخذه معي أينما ذهبت، بانتظار يومٍ ما، قد لا يأتي. 

في انتظار هذا اليوم، لن أنسى ولن أتذكّر. سوف أكرههم من عمق معدتي. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لكلّ يومٍ هرُّه
موجات متجدّدة من الغارات تستهدف الضاحية الجنوبية 
شهيدان في غارة إسرائيلية على شاطئ صور  
إسرائيل ترتكب مجزرةً في منطقة البسطا
62 شهيداً في عدوان الخميس 21 تشرين الثاني 2024
غارة إسرائيلية تقتل علي علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في دورس