من الواضح وجود تناقضٍ ما، بين الثورة السوريّة والثورة اللبنانيّة. ومن غير المفيد أبدًا المكابرة عليه، ومحاولة إخفائه، بل المفيد هو التقصّي عن سببه.
كسوريّين معارضين، تبدو علاقتنا بلبنان قائمةً ومُختزلَةً في جزء كبير منها، على حيثيّة تدخّل حزب الله في سوريا. وأعتقد أن هذا يجب أن يُفهَم، إذْ كان تدخُّلاً حاسمًا، أنقذ نظام آل الأسد، وأدّى إلى استنقاع الأزمة السوريّة أكثر، وأفرز ملايين اللاجئين، وحطَّم إمكانيّة حصول تحوّل اجتماعيّ- سياسيّ. وهو، بالمناسبة، تاريخ قريب، لم تُشفَ منه الذاكرة بعد.
ولكنّ حزب الله ليس العدوّ الأوّل في الثورة اللبنانيّة، بل ثمّة نقدٌ لمحاولات جعله العدوّ الأوّل للثورة، وتحميله المسؤوليّة الواقعيّة الأكبر للأزمة الاقتصادية والمعيشية والسياسيّة، وهذا يجب أن يُفهَم أيضًا.
فالثورة اللبنانية تحكي عن تغيير شامل في كلّ بنية النظام الطائفي، ولا تريد الانزلاق إلى خطاب 14 آذار الشعبوي والاستقطابيّ، والذي تشكّل حرفيّاً عن طريق الضديّة مع حزب الله، مع رؤية اقتصادية كارثيّة.
ومن الواضح في التظاهرات، أنّ ثمّة تردُّدًا في تناول شخص حسن نصر الله، وهذا مفهوم أيضًا، خصوصاً وأنّ الجذريّة السياسيّة في سوريا أتت بنتائج كارثيّة. ولعلّ إنتاج السياسة وتعريفها ضمن المتاح، أكثر فعاليّة واقعيّاً من إنتاجها خارج المتاح.
من الواضح أيضاً وجود اختلافاتٍ بنيويّة أخرى بين الثورتين:
أوَّلاً، الخيار السلمي متوفُّر وغير مكلفٍ في الثورة اللبنانيَّة، بينما انهار جدوى هذا الخيار في سوريا بعد سنةٍ تقريبًا من اندلاع الثورة، لسببٍ معروف هو مستوى العنف الوجوديّ للنظام.
ثانيًا، هناك إمكانيَّة للتجمّع في الساحات العامة للمدن اللبنانيَّة الكُبرى، ممّا ساهم في عبور الثورة للطوائف. وذلك بعكس مستوى الإطباق على الحركة والسكون من قبل آل الأسد في سوريا، والذي منع بشكلٍ مطلق تشكيل ظاهرة التجمُّعات في ساحات المدن الكُبرى كدمشق وحلب، وبالتالي صياغة كتلة ثوريّة عابرة للطوائف.
ثالثًا، في سوريا، واجه النظام المركزيّ الصلب الموحّد شعباً يتفكّك طائفيًا وإثنياً، لسبب معروف، وهو زوال الحدود الفاصلة بين السلطة الأسديّة ومكوّن اجتماعي من مكوّنات الشعب السوري، وهو الطائفة العلويّة. فكان من الصعب جدًا ألا تنزلق ثورة جذريّة في سوريا إلى حرب أهليَّة، وكان لتدخُّل حزب الله، بالمناسبة، دورٌ لا يُستهان به في تسريع ديناميكيّات الحرب الأهليَّة السوريَّة. في حين أنّ النظام المُقسّم طائفياً في لبنان، يواجه شعباً يحاول التشكُّل خارج الطوائف، لأوّل مرة في تاريخ البلد.
رابعًا، كان التركيز على «الوطنيَّة السوريَّة» و«الدولة» و«الانسجام الاجتماعي» في سوريا مُنفِّرًا ومملّاً عند معارضي آل الأسد، إذْ يُعتبَر هذا الخطاب، تكتيكاً تاريخيّاً من قبل النظام السوري، لدمج نفسه بالوطن، وقمع أي حركة معارضة. في حين أنّ خطاب السلطة في لبنان هو «خطاب ذاكرة» يتمحورُ حول التخويف من حربٍ أهليّة أخرى.
لا يهدفُ تشخيص هذه الفروقات إلى استخلاص نتائج قيميَّة أو وصْمات أخلاقيَّة، وإنما مجرّد محاولةٍ لفهم التناقض المذكور بين الثورتَيْن.
عمومًا، وبدون أي نصائح أو محاولة فَهْمَنة، أعتقد، بعيدًا من موقفي النفسي من حزب الله، أنّ المسؤولية الواقعية على عاتق حسن نصر الله هي أكبر بما لا يقاس من المسؤولية الواقعيّة عند الأطراف الأخرى. فأزمة لبنان الداخلية غير منفصلة عن خيارات حزب الله الإقليمية وموقعه في التحالفات الدوليَّة.
لبنان الخارجي مُصاغٌ من قِبل حزب الله، وهو حجر أساس في المشروع الإيراني في المنطقة، هذا صعب إنكاره. أمّا لبنان الداخلي، فهو مجتمع شديد التنوّع والغنى، ولا يمكن اختصاره بحزب الله فقط. ومن الخطأ أخذ موقع من داخل متنوّع، اعتمادًا على خارج مُختزَل.
لكن، رجاء يا رفاق، طلب شخصي نفسي: لا تعيدوا تدوير سامي كليب.