تكذيب بعد تكذيب
نشرت صحيفة «ليبراسيون» تقريرًا مطولًا، هذا الأسبوع، أكدّت فيه أن معظم الجرائم والفظائع التي تمّ اتّهام حركة حماس بالقيام بها يوم 7 أكتوبر لم تحصل. فلم تُقطع رؤوس 40 طفلًا، ولم تُذبح امرأة حامل وجنينها يقتلع من بطنها، ولم يُحرق ولد في فرن غاز ولم يُعلّق أولاد على حبل غسيل. كل هذه «الفظائع» من نسج خيال مريض لسياسيين وإعلاميين وأمنيين إسرائيليين. هذا لا يعني أنّ حركة حماس لم ترتكب جرائم في هذا النهار الطويل، لكنّ ما تمّ نسجه من فظائع لقلب الرأي العام العالمي كان معظمه كذباً وتلفيقاً، حسب الصحيفة الفرنسية.
هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها فضح الأكاذيب الإسرائيلية. فقبل تقرير «ليبراسيون»، كان هناك عدد من التقارير الصحفية، بعضها إسرائيلي، شكّكت ببعض الجوانب من الرواية الإسرائيلية. مجزرة في الحفلة الموسيقية نوفا، استعمال حماس للمستشفيات كمراكز قيادية، وجود مستندات خطيرة على جثث مقاتلين، عدم استهداف الصحافيين، العثور على كتاب كفاحي، اعتقال مقاتلين يسلّمون أنفسهم، وغيرها من «حقائق» الماكينة الإسرائيلية، كلّها تمّ نقضها، وإن بعد أسابيع على تداولها بالإعلام الغربي كوقائع.
غير أن الجديد في هذا التقرير، والذي يأتي بعد كل هذه التشكيكات، أنّه للمرّة الأولى يتمّ الاعتبار من قبل صحيفة غربيّة أنّ هناك «حملة» تضليل ممنهجة. وإن كان الموقع أعلن نشره في الأسبوع القادم تقريرًا آخر ينقد فيها محاولات نفي وقوع مجزرة على يد مقاتلي حماس.
تحوّل الموقف الغربي
تزامن نشر هذا التحقيق مع تحوّل في الموقف الغربي تجاه الإبادة، يأتي بعد أشهر من الضغط الشعبي والتظاهرات وحملات المقاطعة وعمليات الضغط على مصانع الأسلحة والحرب الإعلامية. وبدأت نتائج المقاطعة تظهر، مثلًا، مع اعتذار شركة زارا عن إعلانها الترويجي وسحبه، أو مع إعلان شركة بوما إنهاء رعايتها لمنتخب إسرائيل لكرة القدم في العام المقبل. ومن المتوقع أن تنجح هذه الحملات في فرض مطالبها مع ازدياد الدعم للقضية الفلسطينية وتحوّل مطلب «وقف إطلاق النار الآن» إلى ما يشبه إجماعًا عالميًا.
لكنّ التحوّل الأكثر دلالة في السياسة، هو في موقف الرئيس الأميركي. فبعد تلعثُم المتحدث باسم الخارجية الأميركية، والذي بات يعبّر عن انزعاج، واختلاف، لم تعد تخفيه اللغة الخشبية الرسمية، جاء تصريح الرئيس الأميركي ليؤكد بداية تحوّل في مقاربته للحرب. طالب بايدن رئيس الحكومة الإسرائيلية بتغيير حكومته «المتشدّدة»، والتي وصفها بـ«الحكومة الأكثر محافظة في تاريخ إسرائيل، وهي لا تريد حل الدولتين». وحذّر بأن الحكومة الإسرائيلية بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي بسبب قصفها العشوائي. يأتي هذا التصريح بعد نشر نتنياهو لمقطع فيديو يؤكد فيه وجود خلاف بين واشنطن وتل أبيب بشأن المرحلة اللاحقة للحرب في غزة.
أصبح هناك «رأيٌ عامّ» و«مجتمع دولي» يفرضان حتى على أكثر الدول دعمًا لإسرائيل في إبادتها حدودًا لما تقوم به.
تحوّل غير كافٍ
لكن لنعُد إلى التكذيب وما يعنيه كمحاسبة ضمنية للتضليل الذي ساد في الأسابيع الأولى من الإبادة. أن يتمّ تكذيب الرواية الإسرائيلية أو جوانب منها أمر في غاية الأهمية، وإن كان تكذيب كهذا يأتي دائمًا متأخرًا، غير قادر على وقف ماكينة القتل. لكنّه يبقى تكذيباً جزئياً، إن لم يُستكمَل بعملية محاسبة تؤمّن عدم تكراره مجدّدًا في المستقبل.
فالأكاذيب الإسرائيلية لم تتحوّل إلى «حقائق» من تلقاء نفسها، بل بعد مشاركتها من قبل أكبر وأعرق وسائل الإعلام الغربية التي حوّلتها من مجرّد تصاريح مشبوهة إلى ما يشبه الحقيقة المطلقة من خلال التكرار المَرَضيّ لها. وحتى بعد نقض البعض منها، استمرّ جزء من هذا الإعلام يكرّر هذه الأكاذيب ليتحوّل إلى جزء من الماكينة الصهيونية. فمن سيحاسب هذا الإعلام الذي بات يؤكد بنفسه أنّ ما تمّ نشره كان مجرّد تضليل؟
لم تُنشَر هذه الأكاذيب من قبل وسائل إعلام وحسب، بل تمّ تأكيدها من قبل سلطات سياسية ادّعت أنّ مصادرها الاستخباراتية تؤكد المزاعم الإسرائيلية. فمن سيحاسب هذه الحكومات التي سخّرت كامل مصداقيتها من أجل دعم الدعاية الصهيونية؟
وماذا عن القصص المروعة، من قطع رؤوس أطفال وانتشال جنين من بطن أمه وتعليق الأولاد على حبال الغسيل وحرقهم في الأفران، التي تمّ تعميمها لرسم صورة «شرّ مطلق» شكّلت الرافعة الأساسية للإبادة؟ هذه القصص لم تكن تحتاج لأشهر من التحقيقات لنقضها. كانت تتطلب القليل من العقلانية والتروي لاستيعاب أنّها مجرّد دعاية مريضة. لكن من سيحاسب كل الذين علّقوا حسّهم النقدي لكي يستطيعوا رسم صورة «الشرّ» التي تريحهم في موقفهم الإبادي؟
رغم التكذيب المستمرّ للدعاية الإسرائيلية، والذي يبرهن وجود طرف يقوم بإبادة في مقابل طرف آخر أكثر ما يمكن أن يقال عنه أنّه ارتكب بعض الجرائم (بعد دحض رواية «الفظائع»)، ما زال البعض متمسكاً بمقولة «الإرهاب»، أو في أحسن الأحوال بمقاربة ترى أنّ هناك «طرفين» يجب الفصل بينهما. فمن سيحاسب من حوّل سؤال «هل تدين حماس» إلى منطلق لأي حديث؟ ومن سيحاسب من لا يزال يعتبر أن هناك طرفين والأمور معقدة؟
خلاصة التقرير واضحة وهي أنّ هناك طرفًا كذّب بطريقة منهجية من أجل تبرير إبادة. ربّما كانت خلاصة كهذه صعبة الاستنتاج بالنسبة إلى «غرب» ومؤسساته السياسية والإعلامية. لكنّها ستشكّل اللعنة التي ستلاحقهم على مدى عقود.