مجزرة في ذكرى الثورة
أكثر من ألف شخص قتلوا في بضعة أيام. فيديوهات توثّق ما جرى، وإن كان هناك غموض حول بعض التفاصيل. شهادات تنعى من سقط، لتعيد تأكيد الوقائع الأليمة. مدنيّون تمّت تصفيتُهم بدم بارد من قبل فصائل مسلّحة. ما جرى مجزرة، ولا يمكن وصفها بأي كلام آخر أو «تفسيرها»، هذا التفسير الذي غالبًا ما يتحوّل إلى تبرير، كتجاوز ميدانيّ «متوقّع» لحملة عسكرية قاسية. هي مجزرة، تأتي بعد عدد من المؤتمرات واللجان وتشكيل حكومة وتنصيب رئيس وجملة تسويات أمنية، حاولت أن تقدّم صورة الانتقال السياسي، قبل أن يعود الدمُ ليذكّر بأنّ الحرب ما زالت هنا. كما تأتي المجزرة بعد أشهر على سقوط نظام الأسد، الذي حوّل المجازر إلى فلسفة حكم، بدءاً من حماة وصولًا إلى مجازر السنوات الأخيرة، لتذكّر بأنّ هذه التقنية من السيطرة لم تفرّ معه، بل بقيت مترسّخة بهذه الأراضي المعنّفة. هي مجزرة، وقعت قبل أسبوع من ذكرى انطلاق الثورة السورية، الذكرى الأولى بعد سقوط الأسد، لتذكّرنا بأنّ تحت الخطاب السياسي عن الثورة والحرية والشعب، هناك عنف كامن، لم يعد هو الهامش لرواية الثورة، بل بات هو متن الرواية.
«لكن» أو بنية الخطاب الرسمي
لم تحصل المجزرة فجأةً، بعيدًا عن الإعلام، محاطة بصمت يمكن أن يفسّر استمرارها لأيام. كانت «متوقّعة» كما قال الشرع، الجميع مدرك أنّ الانفجار قادم. وكانت مصوّرة، كسائر المجازر السورية، تفاصيلها تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، وكأنّ هذه المقاطع تغطية مباشرة لتطوّرها. وما سمح باستمرارها هو الموقف الرسمي السوري العام، والذي انتشر بين داعمي الثورة، والذي لأيام حاول «تفسير» ما يجري. ربّما هي مجزرة، «لكن» هناك فلول للنظام يجب مطاردتهم، «لكن» هناك محاولة لانقلاب إيراني، «لكن» هناك كمين قام به مؤيّدون للأسد… هذه الـ«لكن» هي ما سمح باستمرار القتل قبل أن تفرض المجزرة نفسها على الجميع. وعندما سقطت هذه الـ«لكن» السياسية، جاءت الـ«لكن» الاجتماعية: هي مجزرة، «لكن» ماذا كنتم تتوقّعون بعد عقود من القمع، «لكن» ماذا تتوقعون بعد سنوات من تسليح المجتمع… وفي آخر المطاف، لم يبقَ إلّا هذه الـ«لكن» الأخلاقية: هي مجزرة، «لكن» تبقى الأمور أفضل من مجازر الأسد. الـ«لكن» هي الطريق الأسرع إلى الحروب الأهلية، هي لحظة تحوّل التفسير إلى تبرير، ولحظة استبدال اللغة السياسية بصرخات العنف.
محاكاة العنف
عندما لم يعد من الممكن تجاهل الأزمة، بدأ الخطاب الرسمي يبحث عن كبش فداء: عناصر أجنبية، فصيل أو اثنان وحسب، أخطاء من بعض العناصر غير المنضبطة، فصائل متطرّفة تحاول محاصرة الحكم الجديد. لكن ربّما كان أحمد الشرع محقًاً عندما وصف ما يجري ضمن «المتوقّع»، إذا فهمنا ذلك كاعتراف بأن العنف الكامن في المجتمع لا ينتظم ضمن روزنامة الانتقال السياسي وأدبيات السياسة. فأكثر من عقد من القتل وتصوير القتل والإذلال ينتج عنفًا مقابلًا، يطمح لمحاكاته وتكراره. وهذا لم يكن مستورًا. فنظام الأسد وثّق، قبل خصومه، جرائمه ونشرها كجزء من سياسة قمعه، فارضًا خطّ اللاعودة على مجتمعه: الضحية لا يمكن أن تنسى، والجلاد لا يمكن أن يعود إلى السلم. ومع سقوط الأسد، بدأت تظهر الاف الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت واضحة برغبتها بالانتقام وقلب الأدوار. الشرع لم يكن يقصد هذا العنف عندما استعمل عبارة «المتوقّع». لكنّه يكتشف اليوم أنّ لا منصبه كرئيس، ولا إسلامه السياسي، ولا فصيله العسكري، قادرون على وقف هذا العنف. هذا العنف اليوم هو القصة الأساسية في سوريا، قبل بسط سيادة الدولة أو الكلام عن وحدة الأراضي.
قطيعة مع العنف
شكّل السجن والمجزرة عَمودَيْ حكم الأسد، ليبنيا مجتمعًا مقطوعًا عن العالم تحكمه القسوة. وما من شكّ أنّ هناك، في سوريا الجديدة، مَن تجذبه أدوات كهذه. كما أنّ لا شكّ بأنّ انهيار بنى الدولة والتدخلات الأجنبية وصعوبة توحيد الفصائل تؤمّن شروط إمكانية المجزرة. لكنّ هذا لا يعني أنّه ليس عند الشرع ما يمكن أن يفعله لبدء الخروج من دوران العنف الذي يهدّد البلاد. تشكيل لجنة تقصّي حقائق خطوة خجولة في هذا الاتجاه، كونها ما زالت تضع المجزرة في خانة «التجاوزات» التي يمكن أن تنتظر شهرًا قبل أن تنكشف حقيقتها. فهذه المجزرة تصبح «تجاوزًا» إذا عرف الحكم الجديد الردّ عليها من خلال إعادة مركزة الخطاب السياسي حول ضرورة قطع دوران العنف القائم في سوريا، والمنطقة عمومًا. خارج إعادة التموضع هذه، ستصبح المجزرة هي القصة، والشرع والثورة التجاوزَيْن اللذين سينساهما التاريخ ودماؤه المقبلة.