انتفض طلاب المدارس اللبنانية في كلا القطاعين الرسمي والخاص، فتفوّقوا على أساتذتهم، وقدّموا درساً بليغاً في الوعي الوطني بعدما استولت السلطة بأحزابها على نقابات المعلمين/ات وجعلت منهم رهينة لقمة رزق أمّنتها من خلال سطوتها على الوظائف في القطاعين. ثمّ عاد الطلاب في الأسبوع الماضي ليحرقوا كتب المواد الاجتماعية المتحجّرة. امتعض بعض التربويّين من «قساوة» المشهد، وهم الشهود على المحاولات العقيمة لتحديث المناهج الوطنية. فالمنظومة التربوية التي اعتمدت في العقود الاخيرة فاقمت اللاعدالة واللامساوة في فرص ونوعية التعليم بين اللبنانيين، إضافة إلى مراكمة الديون.
تشخيص غير صائب
شخّص اتفاق الطائف مشكلة الطائفية في لبنان على أنّ أحد أهم اسبابها هي الهويات الوطنية المتناقضة بين اللبنانيين التي ساهمت بتعميق الانقسام الداخلي خلال سنوات الحرب الأهلية. وللتغلب على هذه الهويات المتناقضة، وجب إنتاج وتطوير مناهج جديدة تساهم في توحيد كتابَيْ التربية والتاريخ. وبتشخيصه هذا، نلحظ اختزال اتفاق الطائف لمفهوم التماسك الاجتماعي بجانب الهوية الوطنية وتجاهله للتهميش واللامساواة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بسبب تفاوت فرص التعليم ونوعيته بين اللبنانيين وفق إمكانياتهم المادية. إنّ التحليل الطبقي للعدالة في التعليم أمر شبه غائب عن الطائف، وهو ما أدّى إلى تفاقم اللامساواة في فرص ونوعية التعليم والعمل والمشاركة بين فئات المجتمع اللبناني. فبعد 30 عاما على إصلاحات تربوية بلغت ذروتها مع إنتاج مناهج 1997، لم تتعدَّ نسبة التلاميذ في القطاع الرسمي 30٪، غالبيّتهم في المناطق الأكثر حرمانًا، أي عكار والشمال.
لا تقتصر عواقب غياب التشخيص الطبقي على إنتاج كتب مواد اجتماعية متحجّرة (ناهيك بأربع محاولات عقيمة لتأليف كتاب تاريخ موحّد يرضي جميع الأطراف السياسية)، بل تتجلّى أيضاً بسيطرة المنظومة الفكرية للطبقة الوسطى والميسورة والمتمدّنة على المناهج، واختيارها للّغات الرسمية للتعليم، على نحو همّش الفئات المحرومة وحدّ من إمكانية تحسين وضعها الاجتماعي والاقتصادي. فتجاهلت المناهج الفئات الأخرى ولغتها الأمّ ومخزونها الثقافي والتاريخي والجغرافي والاقتصادي. ونتج عن ذلك مناهج مسلوخة عن واقع الفئات الأكثر حرمانًا التي تعتبر اللغتين الفرنسية والإنكليزية لغتين أجنبيتين تعيقان تعليمها المدرسي وتؤدّي إلى تسرّبها من المدرسة. في حين يرى مصمّمو المناهج أنّ رأسمال لبنان للعالم هو تعدّد اللغات التي تتقنها بعض شرائحه، والتي تتيح فرص العمل في الخارج، فأصبحت هجرة اليد العاملة والعقول من ضمن اهداف النظام التعليمي!
وبمقابل عدم تطوّر القطاع الرسمي، ازدهر القطاع الخاص، وتحديداً المؤسسات التعليمية الدينية الشيعية. فكان التوازن الوحيد الذي تحقّق بعد الحرب الأهلية هو بين المؤسسات التعليمية الدينية. لم تكتفِ المؤسّسات الطائفية بالازدهار وحسب، بل قامت المحاصصة الطائفية (الحزبية) في الوظائف الرسمية بتهميش أي محاولة لإصلاح التعليم الرسمي. أمّا بشاعة رأسمالية القطاع التعليمي الخاص، فتتجلّى باستغلالها للمعلّمين/ات. فأوضاع المعلمين/ات تُعدّ الأكثر سوءًا لجهة عقود العمل أو ساعات العمل أو اجازات الأمومة، مقارنةً بزملائهم في ملاك القطاع الرسمي. أمّا من ناحية استغلال القطاع الخاص للأهل، فقد تجلّت من خلال حادثة جورج زريق الذي أحرق نفسه امام إحدى المدارس الخاصة الدينية.
الحركة النقابية
يكمن الأثر الآخر للهيمنة الطائفية على النظام التربوي في إقصاء الحركة النقابية للمعلمين/ات عبر استقطابهم الحزبي والوظيفي. فبعد نجاح تحرّك اتحاد النقابات والروابط بقيادة حنا غريب في 2013 باستقطاب المعلمين/ت في القطاع العام، تمّ الإجهاز على هذه الحركة النقابية بتكتّل جميع أحزاب السلطة ضدّ المستقلين. لم يقتصر الأثر السلبي لتقييد حراك المعلمين على الجانب الحقوقي والمطلبي، بل برزت خطورته أيضاً بتهميش دور المعلّمين/ات واختزاله بتوصيل محتوى المنهج المقرّر. فهوية المعلمين/ات المهنية شبه غائبة، ويندر وجود هيئات متخصّصة ينشطون من خلالها.
إزاء وضع كهذا، يبدو أنّ أقلّ ما يمكن توقّعه من جيل الطلاب هو أن يقدموا على إحراق كتب الموادّ الاجتماعية التي يدرسون فيها.