لم تكن الدراما الإسرائيلية يوماً على قائمة أكثر المسلسلات مشاهدةً في الدول العربيّة والعالم كما حدث مع مسلسل «فوضى» مؤخراً. وبما أنّ المسلسل أفرح ممثلي الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، فمن المهم أن نتساءل عن سرّ هذا النجاح ومآرب الاحتلال منه.
عام 2014 بدأ التحوّل في خط الإعلام الإسرائيلي، إذ ازداد البثّ التجاري وضعف البثّ العام (الرسمي) على إثر تراجع حزب العمل. وحينها شهدت الساحة الإعلاميّة تغيّرات عدّة، أبرزها الدورة البرامجيّة الجديدة لـ«مكان»، القناة الإسرائيلية الرسمية الناطقة بالعربيّة، إذ شهدت انفتاحاً غير مسبوق على الثقافة الفلسطينيّة كجزء من «الهويّة الإسرائيلية». فتحت القناة المجال للفلسطينيّ ليعرض تراثه ويشارك همومه الاجتماعية والسياسية على الشاشة، دون الخروج عن إطار «المواطنة في دولة إسرائيل». وبذلك، يحل الاحتلال أزمة الاختلافات الثقافية، وحتى السياسيّة، بين المركبات الاجتماعية لـ«إسرائيل» باعتبارها خلافات داخليّة لا تفتح الأبواب على أسئلة جذريّة عن تفكيك الاستعمار.
مسلسل «فوضى»- الذي تعرضه نتفليكس- يخدم هذه الرؤية منذ انطلاق موسمه الأوّل عام 2015. فدعاية مؤلفي المسلسل تستند إلى أنهم يعرضون «وجهة النظر الأخرى» أو الفلسطينية، إلى جانب وجهة النظر الإسرائيلية. إلا أنها معالجة تسطّح الصراع بين الفلسطينيين والمستعمر، إذ يظهر في المسلسل وكأنه حرب عصابات في مناطق معزولة عن البنى الاجتماعية والاقتصادية.
توفيق حامد في وجه دورون
يفرّغ المسلسل المقاومَ الفلسطيني من خلال إلصاقه بالعمالة والفساد والسعي الأعمى وراء السلطة والمال، ليجسّد التعريف الأمثل لمصطلح «مخرِّب» الذي يطلقه الاحتلال على كلّ مقاوم له.
مثال على ذلك شخصيّة القائد في حماس توفيق حامد، يؤدّيها هشام سليمان، الذي يختار زوجة شقيقه لتنفيذ عملية استشهادية بحجّة أنها مش من العيلة. ولطالما روّج الاحتلال لرواية تصف النشطاء السياسيين بأنهم أشخاص يائسون من حياتهم أو غير سويّين نفسيّاً. وبالأخص حينما ينفّذ مثل هذه العمليّات فلسطينيّون يحملون الهوية الإسرائيلية، إذ يحرص الاحتلال على تكسير هذه النماذج بسرعة حتى تكبح تأثيرها على المجتمع.
وعلى النقيض من نموذج الفلسطيني البغيض، يتفنّن «فوضى» في رسم معالم أبطال إسرائيليين مثل دورون. يؤدي دور دورون المستوطن ليثور رازو، الذي شارك في اغتيال وخطف فلسطينيين خلال عمله في فرق المستعربين حتى عام 1993. واشترك ليثور في تأليف المسلسل مع آفي يساخاروف العضو السابق في وحدة المستعربين أيضاً. نعم. قاتلان يكتبان قصّتهما ويبثّانها عبر واحدة من كبرى شبكات «الترفيه والإثارة». وبالمناسبة، عمد جيش الاحتلال في السنوات الأخيرة إلى زيادة ظهور الجنود والضباط عبر منصّاته في السوشال ميديا. بل إنه ينشر مقاطع لجنود وجنديات يرقصون على أغان عربية وأجنبية لتطبيع وأنسنة صورة الجندي الإسرائيلي «المدافع عن أرضه».
لنعُد إلى دورون. مُنِح دورون كل مؤهلات النجومية في مواسم «فوضى» الأربعة. شخصيّة «مقاتلة شجاعة» مستعدّة للتغاضي عن تعليمات القادة مقابل إتمام العمليّة. وفي باطن هذا البطل، رغبة شديدة في العيش في منزل ريفيّ في إحدى المستوطنات، حيث يصنّع النبيذ أو يربّي المواشي وينعزل عن الوحدة.
وبينما يؤنسن فوضى القتلة الإسرائيليين، يحشر الفلسطينيّ في صورة المنتفع من النضال. ففي إحدى الحلقات وقبل حفل زفاف شقيق أحد المطاردين، يأتي العريس برزمة كبيرة من الأموال ويضعها بيد عروسه ويقول لها: هاي هديّة عشان نبلّش حياتنا. أي أنه يصوّر الفلسطيني بإنسان يبني أسرته وحياته من أموال تقبضها الأحزاب.
عيون الاحتلال
مثلما يحاول الاحتلال جرّ الصراع الفلسطيني إلى نزاع إسلامي- يهودي، يوظف المسلسل أفكاراً نمطيّة عن المقاومة تربطها بالدافع الديني. فترد جملٌ عديدة عن «قتل اليهود» والرغبة بالاستشهاد ولقاء «الحور العين». وهذا انعكاس لمحاولات الإسرائيليين الدائمة لربط الصراع بـ«التطرف الديني» وإظهار الفلسطينيين أناساً متعطشين للموت والدماء.
وكما أنّ الاحتلال يلاحق الفلسطينيين في حياتهم ومماتهم، إذ يطالب الإسرائيليون بحبس وقتل أهالي «المخرّبين»، يكمل مؤلِّفا «فوضى» العمل من حيث انتهت حكومتهما. ففي الجزء الرابع، يقتل الناشط في حزب الله «عمر» بعد الإدلاء بكل المعلومات التي يعرفها عن الحزب، فيحتجزُ جثمانه. ويقرّر الاحتلال الإفراج عن الجثمان، فنشاهد أهالي جنين يستقبلون جثمان أمير ويشيّعونه بجنازة مهيبة. وكأن المخرج يخاطب كل المؤمنين بتضحيات الفلسطينيين قائلاً: «من المؤسف أنكم لا تعلمون أن شهداءكم ومن تحتفون ببطولاتهم هم مجرّد متعاونين مع الاحتلال».
يريد الاحتلال إشعار الفلسطيني والعربيّ بقوّته وقدرته على اختراق المجتمعات ومراقبتها بسهولة. في «فوضى»، سنجد دورون في علاقة عاطفية مع زوجة مطارد فلسطيني في الضفة. لينتهي بها المطاف بالاعتراف على زوجها المنخرط في المقاومة والهرب مع دورون الذي سيسلّمها للشاباك لأنها في نهاية المطاف «عربيّة». يتعمّد المسلسل إظهار سهولة اختراق أي تنظيم والدخول إلى عمق لبنان وغزة وقتل العديد من الناشطين. هناك استعراض في قدرات الاحتلال على تصفية قيادات وعناصر من حزب الله وحماس بسهولة، ما يعزّز خطاب القوة التي تعتمدها حكومة الاحتلال.
كثيراً ما يدعو الاحتلال الفلسطينيين إلى «التهدئة» و«عدم الانجرار» إلى الخطاب المقاوم بحجّة أنه لا يخدم سوى المصالح السياسية للأحزاب. وفي ذلك محاولة لنزع الحاضنة الشعبيّة عن المقاومة. يتبنّى المسلسل هذا الوهم بإظهار الدعم المالي الكبير لهذه الأحزاب وتلاقف رزم الأموال بين النشطاء وعائلاتهم مثلاً. في المقابل، يظهر الفلسطينيون غير المنخرطين بالعمل العسكري رافضين لهذه الأحزاب وكارهين لنشطائها ومسارعين للتعاون مع الاحتلال مقابل «هدأة البال والاستقرار» الزائفين. وبعض من يكفرون بالمقاومة هم في حالات عديدة أبناء عائلات المقاومين أنفسهم.
من هو الفلسطينيّ الذي يشارك في فوضى؟
اللكنة الفلسطينيّة الثقيلة لم تكن عائقاً بالنسبة لليهود المستعربين في اختراق المجتمع الفلسطيني، أو حتى اللبناني، ويمكننا التغاضي عن ذلك لصعوبة إيجاد ممثّلين يهود يتحدثون العربيّة بطلاقة. لكن ما لا يمكن التغاضي عنه هو ركاكة النصوص الفلسطينيّة. وإن دقّقت في الجمل التي يحكيها الفلسطينيّون ولو كانت لديك معرفة بسيطة باللغة العبريّة، فستدرك أن السبب هو كتابة السيناريو بالعبريّة أساساً. فالحوارات مترجمة بحرفيّتها لتنتج نصوصاً عربيّة رديئة، لا تشبه اللهجة الفلسطينيّة.
لا يمكننا التعامل مع المشاركة الفلسطينية في مسلسل كهذا أمراً عابراً. فالممثلون اختيروا بعناية ليكونوا متماهين مع الرواية الإسرائيلية بل معادين للرواية الفلسطينية. لنأخذ مثلاً لوسي أيوب التي تؤدي دور شقيقة «عمر». خدمت لوسي جيش الاحتلال وسلاح جوّه. وعملت مقدمة في الإذاعة الرسمية الإسرائيلية، وهي مقدّمة برامج في مجموعة «كيشيت ميديا». لوسي اليوم متزوجة من يهودي ولا تعرّف نفسها على أنها فلسطينيّة، بل مجرّد إسرائيلية من أصول عربيّة.
أما بطل الموسم الأول هشام سليمان، فهو ممثل معروف بمواقفه التطبيعية مع الاحتلال. وقد ظهر في لقاء يردّ فيه على منتقديه من الفلسطينيين والعرب بأن العرب لم يلتفتوا يوماً إلى فلسطينيّي الداخل، وأنه يعيش في «دولة إسرائيل» ذات التركيبة السياسية والاجتماعية المعقّدة. وبرّر دوره في المسلسل بقوله إنه «ممثّل» يفعل ما يمليه عليه المخرج والمؤلف، وبالتالي يجب ألا يتحمّل مسؤولية رسائل العمل السياسية، مع اعترافه بأن المسلسل مكتوب من وجهة النظر الإسرائيلية. وانخرط هشام سليمان في برنامج مع جيش الاحتلال، حيث قدّم محاضرات عن «المجتمع العربي» للمقبلين على الخدمة في جيش الاحتلال.
هشام ولوسي ومن شابههما من الفلسطينيين والعرب المتأسرلين والمطبّعين ليسوا أوّل من تسخّرهم حكومة الاحتلال لخدمة خطابها لترويج التعايش بين الفلسطينيين واليهود في «إسرائيل». وبذلك تفرض الدولة الاستعماريّة توازناتها الداخليّة كي لا تتحوّل التجاذبات الهويّاتيّة لصراعات حقيقيّة على السلطة.
أما في الضفّة وغزّة، فتتمثّل هذه الرؤية في مخاطبة مؤسّسات الجيش للفلسطينيين في الضفّة وغزة ودعوتهم للحفاظ على «الهدوء الأمني» لاستمرار «التسهيلات» التجارية وإصدار تصاريح العمل في الداخل المحتلّ. ولكن دولة الاحتلال التي تبرم اتفاقيات التطبيع مع محيطها العربي باتت بحاجة لنقل هذا الخطاب إلى الخارج. لم تكتف بالتباهي بمساجدها وعمارة عربيّة مسروقة هذه المرّة، بل مجّدت قتلها للفلسطيني ونزعت عنه إنسانيته وسعيه للتحرّر.