نقد إيران
سمير سكيني

من البوعزيزي إلى أميني 

دروسٌ في التضامن والتخوين

4 تشرين الأول 2022

أن تحيا وتُحيي بعد الموت

أن يحيا الإنسان بعد مماته، فهذا ما كان من صفات القدّيسين.
أن يُحيي الإنسان بعد مماته، فهذا ما كان، منذ الأزل، من صفات الله.

في الأعوام الأخيرة، صارت هذه الأفعال الخارقة من خصائص الناس والجماعات. من خصائص، مثلاً، بائع خضارٍ متجوّل في شوارع تونس. لم يحتمل محمد البوعزيزي مصادرة عربته، ولا احتمل صفعة الشرطية له، ولا احتمل عدم الإصغاء لشكواه– لكنّه أيضاً، ما احتمل كمَّ الاضطهاد المُتراكم، فأضرم النار بنفسه.

فعلُ احتجاجٍ صارخ، يبدو فردياً للوهلة الأولى، إلّا أنّه ارتُكبَ بالنيابة عن الجميع. أطلق هذا الفعل موجةً طويلة الأمد من الثورات العربية، وعاش البوعزيزي بفعلِ موته، بفعل أن اعترض، أن قال لا، وأحيا بذلك منطقةً رزحت طويلاً تحت عبء الديكتاتوريات.

عنب بلدي

يختلف مقتل الشابة جينا (مهسا) أميني ومحمّد البوعزيزي بأنّ الأخير اختار وضع الحدّ لحياته. اختار أن يعترض، ولربما لم يكن في ذهنه «اعتراضاً»، بل مجرّد يأس. جينا، بالمقابل، قُتلَت دون أن تختار. لكن مجرّد وضعها الحجاب بشكلٍ أزعج «شرطة الأخلاق» المزعومة، فإنّ في ذلك بذور اعتراضٍ على القانون وتعبيرٍ عن رفضه.

الاختلافُ جوهري بين المماتَين، لكنّه يغدو تفصيلاً نسبةً لوجه الشبه الآتي بعد الممات: تحريك فئات اجتماعية مُهمَّشة استدخلت الاضطهاد على يوميّاتها وتماهت معه حتّى اعتقدت الاعتراض مستحيلاً، حتّى اعتقدت أنّ «الأبد» هو شكل الحكم العادي في المنطقة.


المُمانعة إذ تُمانع فاعليّة الفئات المُنتفِضة 

أوجه الشبه تتعدّى الهبّة التي تلَت الممات، وتصل إلى البنية المُجتمعية لإيران والمنطقة العربية، على صعيد الشعوب، كما على صعيد الأنظمة.

وإن كان من الصعب التدليل على صلاتٍ مباشرة بين الفئات الاجتماعية التي تتحرّك اليوم في إيران وتلك التي تحرّكت في السابق في لبنان أو سوريا أو العراق أو غيرها؛ فإنّه يسهل، بالمقابل، التدليل على صلات مباشرة على صعيد الأنظمة وأحزابها، بين النظام الإيراني من جهة، والنظام في لبنان وسوريا والعراق وغيرها، من جهة أخرى.

وفيما تُحدّد الصِلات بين الشعوب المُضطَهَدة (والتي تَعي اضطهادَها) معايير التضامن: مثل تضامننا مع نساء إيران وحريّتهنّ، أو حقوق الأقليات في إيران والمُفقَّرين؛ تُحدّد العلاقات بين الأنظمة معايير التخوين: مثل أن يردّ جمهور الممانعة أي تحرّكٍ في هذه البقعة الجغرافية إلى منطق المؤامرة، كونه «يستهدف» نظامه الأوسع.

يختزل هذا الجمهور البلدان إلى أنظمتها: فإذا كان النظام الإيراني بخير معناه أن إيران بخير. تُخفى الفروقات الاجتماعية وشرائح «الشعب»، وتُوضَع كل هذه الفئات في سلّة كبيرة اسمها «إيران». يُسقط جمهور الممانعة عليها النموذَجَ الذي يريد أو الذي رسمته له القيادة، حتّى يكاد يتعجّب أنّ في إيران نساء يرفضن الحجاب، أو فقراء، أو يساريّين… في نظرته الماهَوية (الجوهرانية)، «الإيراني» ذكرٌ مُتديّن يؤيّد النظام ويتبنّى إيديولوجيّته، معيشته جيّدة، ولو كانت رديئة فهو بلا شكّ مستعد أن يصبر ويتحمّل دون اعتراض– لأنّ «القيادة أحكَم مننا».

يُلغي هذا الموقف فاعليّة الشعوب، ذَواتها الفاعلة، نشاطيّتها السياسيّة، فيردّ المحرّك الأوّل لأي فعلِ احتجاج إلى المؤامرة. مؤامرة تُربَط بالضرورة بـ«الخارج» أو «الغرب» أو «السفارات»، المهم أن يكون أي شيء من خارج البنية الإيرانية نفسها، وكأنّ هذه البنية خالية من التناقضات والاضطهادات.

كأنّ نساء إيران لا يُعانين من قمعٍ يكفي لأنّ يتحرّكن.
كأنّ الأقليّات الكرديّة ليست مهمّشة في إيران.
كأن الإيرانيّين جميعاً فوق خطّ الفقر.


الشرارة لا تختزل ناراً

تقاطعت هذه القضايا الثلاث في انتفاضة إيران الراهنة: تحرّر النساء، مسألة الأقليّات، الأفُق المَعيشي، ثلاثتها معطوفة على حكمٍ ثيوقراطي مُتشدّد. حملت الاحتجاجات الراهنة ثلاثة أوجه إذاً، قابلة للتزايد، بينما كانت شرارتها شرارة واحدة: مهسا أميني، وهي، للإشارة، شابّة من أصولٍ كردية.

DELIL SOULEIMAN/ AFP

نفهم من هنا اجتهاد هذا الجمهور للتدليل على أنّ مهسا أميني توفّيت، صدفةً، دون أن تُقتَل. لا يُريد هذا المنطق أن يرى الاضطهاد المُضمَر في البنية الاجتماعية الإيرانية، الذي كان هائلاً لدرجة أنّ تلك الشرارة أشعلته وقد دخل اليوم أسبوعه الثالث، ينتقل من محافظةٍ إلى أخرى. يقتنع هذا المنطق بأنّه لو نجح في برهنة وفاة أميني الطبيعية، وألغى بالتالي مَقتَلها، أي أنّه ألغى «الشرارة»، فإنّ الاحتجاجات ستخفت إذ لم يعد لها من مبرّر. وإن لم تخفت، فهذا الدليل القاطع على أنّها محرَّكة من الخارج!

هذا هو المنطق الذي عبّر عنه صراحةً أمين عام حزب الله حسن نصرالله، في خطابه الأخير، خطاب مخصّص لإقناعنا أنّ إيران بخير وللتبخيس بالتحرّكات الحالية، لكن أيضاً، التبخيس بمقتل أميني: 

هناك سيّدة إيرانية توفّيت في حادثٍ غامض. حتّى الآن، ما حدا عنده وضوح بالحد الأدنى انّه هذه السيّدة ماذا جرى عليها، وكيف توفّيَت؟ [...] طب قامت الدنيا! قامت الدنيا…

ولو سلّمنا جدلاً أنّ «الحادثة غامضة» بالفعل، فهل يكون مقتل تسعين متظاهراً وأكثر، على يد الباسيج، هو أيضاً «ظروف غامضة»؟ ألم يبرهن النظام بما يكفي أنّه قادرٌ على القتل وراغب به؟ إنّ الاستهجان أمام التحرّكات التي تلت «الحادثة الغامضة»، ليس إلّا التعبير الصريح عن اختزال النار بشرارتها.

يشبه ذلك رواية الـ«6$ على الواتساب» التي تُصوَّر كشرارة 17 تشرين، حتّى يقول مُعترض: «إذا زادوا 6$ عالواتساب شو خص تكسير المصارف؟». تماماً كما يدّعي بعضٌ أنّ مجهولاً أحرق البوعزيزي كذريعةٍ لإطلاق «الأعمال التخريبية». تماماً كما يُشكّك آخرون بجريمة أطفال درعا؛ وقد صارت اليوم «أبسط» الجرائم، وأكثرها قابليةً للتصديق، مُقارنةً بالبراميل وصوَر قيصر وغرف الملح!

من المُفيد أيضاً، للتوسّع في ما تُخفيه «الشرارة»، مقارنة انتشار الانتفاضة الإيرانية الحالية مع تظاهرات إيران عام 2019، على خلفية الزيادة الهائلة بأسعار المحروقات. الاحتجاجات تتطابق تقريباً، بين 2019 و2022. فمن يتحرّك في الشارع، يملك الأسباب الكافية للتحرّك، دون حاجة المؤامرات. والشعب المُقتنع بجدوى نظامه، عن حقّ، لا يتحرّك ضدّه ولو تدخّلت كل سفارات العالم. أسباب الاعتراض موجودة في البنية الاجتماعية الإيرانية نفسها.

على نطاقٍ أوسع، لم تكن الطريقة التي انتشرت بها الثورات العربية عبثية هي الأخرى، أو وليدة «الخارج». بل تكوّنت نتيجة واقعٍ مَعيشي محدّد، متشابه بين البلدان التي انتفضت، وانفجرت نتيجة «الشرارة». في كتابه «الشعب يريد»، يولي الرفيق جيلبير الأشقر اهتماماً خاصاً لواقع القوى المُنتجة ومستويات البطالة واللامساواة في المنطقة العربية قبل اندلاع الثورات، وهي معدّلات فاقعة لدرجةٍ تسمح التنبّؤ بأنّ الثورة القادمة، قادمة.

معدّلات بطالة الخرّيجين (1984- 2010)

 تونس 5.3٪ (1989) 21.6٪ (2008)
الجزائر 8.4٪ (1990) 20.8٪ (2010)
المغرب 6.0٪ (1984) 17.7٪ (2010)
(المصدر: الشعب يريد، جلبير الأشقر—2013)

البوعزيزي كشرارة، لم يكن مفصولاً هو الآخر عن شراراتٍ سبقته أو تلته، رسمت جميعها سيرورةً ثورية طويلة الأمد لا تنضب، حتّى تخلخل كل ديكتاتوريّات المنطقة: من ربيع دمشق 2000، إلى ربيع بيروت 2005، فالبوعزيزي والثورات العربية الأولى، وصولاً إلى الموجة الثانية عام 2019، بين السودان ولبنان والعراق، وإيران أيضاً التي تحرّكت عام 2019، لكن أيضاً عام 2009، واليوم.


مغالطة الفصل بين التحرّر والتحرير

من المفهوم أن تحتمي الأنظمة التي يُثار ضدّها، بمنطق المؤامرة والتخريب. وقد استند الرؤساء وتوابعهم على عناصر التخوين نفسها لمواجهة جماهير الموجة الأولى.

الطريف، أنّ النظام الإيراني أيّد هذه الثورات آنذاك، حتّى أنّ 228 نائباً إيرانياً (من أصل 290) وقّعوا بياناً يدعم بثبات الحركة الثورية للشعب التونسي الشجاع ويتمنّى له التوفيق [...] وأنّ صرخة الحرية التي أطلقها الشعب التونسي أنهت مرحلة الطغيان ووضعت ابتسامة على وجه هذا الشعب المضطهد.

البرلمان الإيراني، ومن خلفه «المحور» عموماً، دعم الثورات العربية. دعمها، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خطّ فيه أحدهم، على حائطٍ من حيطان «سوريا الأسد»، عبارة جاييك الدور يا دكتور. وصارت «صرخات الحرية» مجرّد مؤامرة. شيءٌ يُشبه «17 تشرين» وعبارة «أنا أوّل يومين كنت مع الثورة».

اليوم السابع

من الثورات العربية وصولاً إلى الانتفاضة الإيرانية اليوم، نصّب المحور نفسه وكيلاً لتوزيع شهادات الوطنية، لا حجج يواجه فيها الضائقة الاقتصادية السياسية سوى التلويح بورقة «المقاومة»، وأنّ من ينتفضون هم بالضرورة أعداء «المقاومة». يُخيّر المحور المنتفضين بالمفاضلة (المغلوطة) بين رغبة «مقارعة الاستكبار العالمي»، ورغبة تحرّرها من أنظمتها. وبقدر ما تتكامل المسألتان، بقدر ما يجتهد محور الممانعة لوضعهما في تضاد دفاعاً عن نفسه.

المشكلة هنا من طبيعة أخلاقية– أي قيمة تُحدّد الأخرى: مناهضة الامبريالية أم حقّ الشعوب؟ لو كنا نعارض الامبريالية لأنّها، بحكم التعريف وبوجه عام، تنتهك حقّ الشعوب في تقرير المصير، فإنّنا سوف نُساند هذا الحق على سبيل الأولويّة، حتّى في الحالات الاستثنائية التي تُساند فيها الامبريالية هي الأخرى، ولأسباب انتهازية صرفة، بعض الشعوب لممارستها هذا الحق [...].

أمّا لو اعتبر المرء أنّ مناهضة الامبريالية في حد ذاتها هي القيمة العليا، فلن يتردّد في تأييد سحق الشعوب المطالبة بحقّها في تقرير مصيرها لمجرّد قيام الامبريالية بتقديم الدعم لها بصورة انتهازية، أو لمجرّد اعتباره أنّ النظام الاستبدادي الذي يقهر تلك الشعوب «مناهضاً للامبريالية». إنّه المنطق البائس القائل إنّ «عدو عدوي صديقي».

(محاولات استيعاب الانتفاضة، الشعب يريد، جلبير الأشقر، 2013)

أحياناً ينبغي السؤال، ما المعايير المطلوبة كي يحظى تحرّكٌ ما بهذا القدر أو ذاك من التضامن. فلو كانت «المطالب مُحقّة» بالفعل، أيكفي أن يتدخّل الغرب كي تُخوَّن التحرّكات؟ من المثير أن نبحث حقّاً عن التحرّكات التي نالت رضا المحور، دون أن يخوّنها. وإذ تبيّن أنّها تُقارب الصفر، وجبَ السؤال: كيف تُحقّق الفئات الاجتماعية أيّاً من مطالبها؟ يا أخي، ولو كان المطلب أن تصِل المياه إلى قريةٍ في جنوب لبنان! كيف تُحقّق ذلك؟

يمكن الإسهاب إلى ما لا نهاية إجابةً على هذه الإشكالية، لكنّها في نهاية المطاف مجرّد إشكالية مغلوطة تُستخدم لتبرير سحق الشعوب خدمةً لقضيّة أسمى، كما تُستخدم لحجب الحقيقة المرّة، حقيقة أنّ «المقاومة» لا تتقاطع مع التشبيح. ليس مقاوماً من يعتدي على شعبه، أو غير شعبه.

المعادلة بهذه البساطة، من لبنان إلى إيران: لا يمكن لمن يقمع شعبه أن يُحرّر شعوباً أخرى. لا يمكن لحركات تحرّرٍ وطني أن تُبنى على اضطهاد، أي على الضدّ من التحرّر.


دروسٌ للعالم، بدءاً من الغرب

يُعيب المحور على هذه الانتفاضات أنّها تحظى بدعم الغرب، وقد تأتي الإعابة في نفس الخطاب الذي يُندّد بانتهازية الغرب. يُدرك الجميع أنّ هذا «الغرب» انتهازي، يدعم التحركات وفق مصلحته لا وفق أحقّيتها، ولو جاهر المنتفضون بعدائهم للغرب. ومع ذلك، يتعامل المحور مع التأييد المزعوم على أنّه علاقة باتّجاهَين.

وقد رفع العراقيّون، مثلاً، شعار «لا أمريكا لا إيران»: «لا أميركا» تعبيراً عن رفضهم الاحتلال الأميركي لبلادهم، تزامناً مع خروجها منه، و«لا إيران» رفضاً لتمدّد سلطة المحور فوق هذا الخروج، واستبدال هيمنة سياسية بهيمنة سياسية أخرى. شعارٌ بسيط، يتحرّك بالضدّ من منطق الثنائيات والمُفاضلة بين أسوأَين، مهما اختلفت الهوّة بينهما.

المُثير، أنّ في هذا الغرب مفكّرين يدلّلون على قصور الغرب وصغره أمام التحرّكات العربية، فيما يصرّ المحور على أنّ هذه التحرّكات لا قيمة لها، وعلى أنّها صنيعة المؤامرة الغربية. «جكارة» بالغرب، تُقَزَّم موجات ثورية «على الغرب أن يلحق بها»، حسبما عبّر المنظّر سلافوي جيجك:

لا يكفي أن أُعلن دعمي الكامل لتظاهراتكم، تظاهرات «زن زنداكي آزادي»، فالمسألة أوسع. إنّ لنضالكم –حرفياً– أهمية عالمية تاريخية، كونه يقدّم درساً لنا أيضاً، في ما يُسمّى «الغرب المتقدّم» [...].

المسألة ليست أنّنا نعيش حريّتنا في الغرب، ويمكن لنا أن نغدقكم برسائلنا الأبوية الداعمة كي تلحقوا بنا، نحن الديمقراطيات الغربية الليبرالية. لا! بل أنّ هذه الديمقراطيات اليوم في أزمة عميقة بدأت تنفجر (إقصاء للنساء، عنف سياسي، عنف ديني…). ونحن من يجب علينا أن نلحق بكم. أن ننظّم تظاهرات تجمع النضال ضدّ كل هذه الأوجه من الاضطهاد [...] ما تعلّمته أيضاً، هو أنّني لا أملك شيئاً أعلّمكم إيّاه هنا، بل أنا من يجب أن أتعلّم منكم.

هذا الموقف المنشور في تشرين الأوّل 2022، يُعيدنا إلى مقالٍ للمفكّر آلان باديو، نُشر تعقيباً على الثورات العربية في شباط 2011، بعنوان «تونس، مصر: عندما تُطيح ريحٌ شرقية بغطرسة الغرب»:

في حالة البؤس السياسي الذي نعيشه منذ ثلاثة عقود، أليس من الواضح أننا نحن من نحتاج أن نتعلّم من الانتفاضات الشعبية في الوقت الحالي؟ ألا نحتاج وبشكلٍ عاجل إلى أن ندرس عن كثب، العمل الجماعي الذي جعل ممكناً الإطاحة بالحكومات الأوليغارشية، الفاسدة، والتي هي– علاوة على ذلك– في حالة تبعية مهينة للغرب؟

نعم، علينا أن نكون تلامذة هذه الحركات، لا أن نكون معلّمين أغبياء. لأنهم، عبر عبقريّتهم في التحرّك، يمنحون الحياة لبعض المبادئ السياسية التي حاولنا أن نقنع أنفسنا بأنّ الدهر قد مرَّ عليها.

ليس من الحكمة اليوم، ولا كان من الحكمة إثر الثورات العربية، تخوين المنتفضين والاجتهاد لربط فاعليّتهم السياسية بالغرب. كان من الأَولى الرهان على أنّهم، وبفاعليّتهم السياسية، قادرون على صوغ طريقهم نحو التحرّر، بعيداً عن الثنائيات المُسقطة عليهم. لا بل، أن يتعلّم الغرب نفسه، شعباً وأنظمة، من هذه الفاعلية السياسية للشعوب العربية والشعب الإيراني، التي ما هدأت منذ مطلع الألفية الجديدة وحتّى اليوم. كما تكتسب هذه المقاربة أهميةً قصوى، اليوم بالتحديد، مع عودة الفاشية إلى أوروبا.


لا يُمنَع ربيعٌ من المجيء

يتعلّم الغرب، أو لا يتعلّم. يتضامن، أو لا يتضامن. ينتهز… أو لا ينتهز. يتعلّم الشرق، أو لا يتعلّم. يتضامن، أو يخوّن… كل هذه البهبطات لا تهم. المهم أنّ في هذه البقعة الجغرافية فئاتٍ اجتماعية تحيا وتُحيي بعد الممات. ولو نظرنا إلى السياق الأوسع، منذ ربيع دمشق 2000 وحتّى انتفاضة إيران 2022، لوجدنا أنّ هذه الشعوب قد حقّقت الكثير، وقد عانت أكثر لمجرّد حسم خيارها: خيار أنّها تُريد أن تحيا أيضاً قبل الممات.

يدرك متظاهرو إيران أنّهم إذ يمشون عزّلاً أمام قوات الباسيج، فهم يمشون نحو الانتحار. يدركون أيضاً أنّ هذا النظام مستعدّ لإبادتهم وجعلهم درساً لمن تسوّل له نفسه أن ينتفض. لكنّهم يدركون فوق ذلك أنّ موتهم في هذا السياق ليس مماتاً، بل هو الحياة عينها.
يُدركون أن خصلة الشعر أقوى من الرصاص، وأنّ انتفاضتهم ولو تُقمع الآن، فإنّها انتصرت بلا شكّ، وقد حقّقت أكثر ممّا كان يتصوّره أحد. تُقطَع الورود مِراراً، ثم يأتي الربيع مثنى وثلاث ورُباع… دون ملل.

مأساة الشعوب هنا، وشجاعتها، أنّها تواجه المحورَين في الوقت نفسه إذ قرّرت أن تنتفض؛ مهما ادّعى المحوّر الأوّل «مناهضة للامبريالية»، ومهما ادّعى المحوَر الثاني تمسّكه بقيَم الحريّة والديمقراطية. كلاهما يبغضان كل تحرّك من خارج ثنائيّتهما.

في نهاية المطاف، يبدو أنّ العلاقات الاجتماعية- السياسية بين شعوب المنطقة، ليست إلّا علاقةَ دمٍ وورد. دمُ المنتفضين على الإسفلت، دمُ الشعوب إذ تسفكها الاحتلالات؛ ولكن ورد، وردٌ يستعيد صداه من انتفاضةٍ إلى أخرى، ضمن سيرورةٍ ثوريّة طويلة الأمد، شهدت انتكاسات بطبيعة الحال، لكنّها بلا شكّ تسير نحو الربيع.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت