بات ممكناً إبداء الرأي بظاهرة النبي نشأت وفيلم «أصحاب ولا أعز» بناءً على النقاش المتداول حولهما، فقط، بلا أي مشاهدة.
وإن كان النقاش المتداول يدور في فلك السوشال ميديا والثقافة والمجتمع، فإنّه صار يدور في فلك السلطة ونقيضها، مع إيقاف نشأت مُنذر في لبنان بناءً على دعوى دار الفتوى، ومع صدور فتاوى من الأزهر ضدّ الفيلم في مصر.
المشترك إذاً أنّ السلطة القيّمة على الإسكات ذات طابع دينيّ.
سلطة الخطاب
يستمد الخطاب الديني سلطته (من جملة ما يستمدّ سلطته) من المرجعيّة التي تنطق بالخطاب، قبل أن يستمدّها من مضمون الخطاب نفسه.
عبر الزمن، سعت المرجعيات الممثّلة للديانات الثلاث لاحتكار تلك الشرعية، وصدّ الطريق أمام أي محاولة من الخارج للتطرّق للخطاب الديني. حُوكِمَ صادق جلال العظم لنشره كتاب «نقد الفكر الديني»، واغتال الإسلاميّون الكاتب فرج فودة بعد تكفيره.
طبعاً، ما فعله نشأت لا يصل إلى مصافّ النقد الفلسفي للدين، لكنّ النقاش الذي دار- وإن من باب التهكّم- تعقيباً على فيديوهاته، هو ما يزعزع تلك الدائرة التي رسمتها المراجع الشرعية. كيف لنا أن نتعاطى مع فكرة النبوّة بعصر السوشال ميديا؟
تُدرك المرجعيّات أنّ نشأت ثانوي للغاية، لكن الخطورة تكمن في هذا السؤال فقط. في أنّ وجود السوشال ميديا، هذا العالم الافتراضي، قادرٌ على كسر «سلطة الخطاب» هذه، عبر خلق تساؤلاتٍ تبدو بسيطة للوهلة الأولى.
هكذا هوجِمَ النبي نشأت إذاً، لاحتلاله تلك المساحة في السوشال ميديا، ولأنّه على وجه الخصوص، احتلّ مساحةً تنمو فيها تهكّمات وأسئلة تشكّك بمنطق النبوّة ومنطق الغَيب. فكيف لسلطات الغَيب أن تقبل بذلك، وهي التي تنتظر الانهيارات لترسّخ سطوتها؟
منطق «سلطة الخطاب» يُسحَب على كافة الميادين.
نعود لظاهرة الكابتن طوني كتّورة وظاهرة رملاء نكد، مع تعرّضهما للتنمّر على شاشات التلفزة. هناك، خرج «نجومٌ» ليسخّفوا ثقافة الميديوكر التي انتشرت على السوشال ميديا. لا لأنّها ثقافات متوسّطة الموهبة بذاتها، بل لأنّها احتلّت مساحةً من الحيّز العام لم يسمحوا هم لها باحتلالها، وخلقت نقاشاً من خارج حدود النقاش الذي تخلقه ثقافة فنّاني الصفّ الأوّل.
سلطة الفاعل
قد يدور جدلٌ عمّا إذا كان فيلم «أصحاب ولا أعزّ» يمثّل العالم العربي بالفعل أم لا. لا أعلم. من الصورة، نُقدّر أنّه يمثّل فئة محدّدة طبقيّاً، ليست هي الفئة الأوسع انتشاراً ضمن العالم العربي. من التعليقات، نحكم أنّه تطرّق إلى مواضيع تدور حقّاً في العالم العربي، ولو أنّها حُيّدَت لزمن عن النقاش العام.
لكنّ ما يمثّل العالم العربي بالتأكيد، ليس الفيلم بدقائقه المئة، إنّما النقاش الذي تلاه، بشقَّيه المُعارض والمؤيّد. الهواجس المفضوحة هي امتدادٌ لمتن الفيلم نفسه، وجزءٌ منه.
لكن أن تحصد منى زكي الكمّ الأكبر من الشتيمة، بسبب كيلوتها، فهو ما يمثّل العالم العربي بذكوريّته. غير أنّ الاعتراض ليس على الفعل نفسه، ليس على جنسانيّة منى زكي- لا سيّما أنّ السينما المصرية كانت رائدة في هذا المجال، وليس على الكيلوت، بل في أنّ فاعل خلع الكيلوت هو منى زكي نفسها. لو أنّ رجلاً نزع كيلوتها، وضاجعها، لكان اهتاج الجمهور بلا أي تعليق. الاعتراض إذاً ليس على الفعل، بل على الفاعل، للدقّة: على استقلاليّة الفاعل؛ للدقّة أكثر: على استقلالية الفاعل باعتبارها امرأة، أقدمت على فعلٍ جنسيٍّ بإرادتها بلا جميلة الذكر «الشرعي».
الحملة انقضّت على منى زكي لأنّها بفعلتها العادية تلك، سلبت شيئاً من سلطة الفاعل الذي اعتاد أن يتحكّم هو بجنسانيّة المرأة على هواه، لا العكس.
تنزعج السلطة إذاً من هذه الذبذبات. تنزعج من المواد التي تحرّك استقلاليّةً ما بدون العود «للشرعية»، كما تنزعج من ثقافة الميديوكر.
تنزعج من ظواهر تزدهر على وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ مجّاني ومُتاح للجميع، فيما تتكلّف هي الملايين لتنحت النقاش المُهَيمن على الفضاء العام عبر شاشات التلفزة وعبر أدلَجة المجتمع.
المشكلة ليست في نشأت إذاً، ولا في كيلوت منى زكي، بل في أنّ السلطة لم تتقبّل بعد أنّ عصر السوشال ميديا أسرع منها.