دراسة نسويّة
لبنى الشرفاتي

نساءٌ من فلسطين: أمومةٌ تحت التهديد

22 آب 2024

فيديوهات من غزّة تظهر فيها نساءٌ فقدْن أولادهنّ يوصين بعضهنّ بعضاً بالصبر. طبيبةٌ في مستشفى تفقد وعيها بعد رؤية ابنتها المُصابة ممدّدة ًعلى محمل، وكأنّ ألمها لم يتجاوب معه، لا الجسم و لا العقل، إلّا بالانسحاب. 

تقرّبنا هذه الصُّوَر من فظاعة ألم فقْد الأبناء. لكنّها تذكرنا أيضًا بما تعرّضت له أمّهات فلسطينيّات منذ الانتفاضة الأولى، وخصوصاً خلال الانتفاضة الثانية، من قسوة الوصم من طرف التيار الغربي المتواطئ مع الاحتلال الإسرائيلي، والذي وصفهنّ كأمّهات غير صالحات و إرهابيات مستعدّات للتضحية بأبنائهن. فعوضَ التعاطف معهنّ بوصفهنّ ضحايا العنف الإسرائيلي الوحشي والممنهج، يتمّ لومهنّ و محاكمتهنّ أخلاقياً واتّهامهنّ في أحسن الأحوال بالإهمال.  Lori A. Allen, “Mothers of Martyrs and Suicide Bombers: The Gender of Ethical Discourse in the Second Palestinian Intifada”, in The Arab Studies Journal, Vol. 17, No. 1 (Spring 2009): pp. 42.

لكن معاناة الأمّهات الفلسطينيات لا تقتصر على لحظة استهداف أبنائهنّ. هي خبزهنّ اليومي. فما معنى أن تكون امرأةٌ وأمٌّ تدرك أنّها قد تفقد أمومتها في أيّ لحظة بسبب عنف الاحتلال؟


الأمومة تحت الاحتلال الإسرائيلي

أن تكون المرأة أمّاً مع العلم أنّها قد تفقد أبناءها في أي لحظة، إمّا بالاعتقال أو القتل، هو العيش في خوفٍ وضغطٍ نفسيّ مستمرّ، يستنزف طاقة الأمّهات، كما يؤثّر سلباً على أطفالهن. أظهرت العديد من الدراسات أنّ التعرض للعنف والصدمات يولّد أعراض قلق ما بعد الصدمة و مشاكل سلوكية عند الشباب، كما أن المشاكل النفسية بدورها لها تأثير على الصحة الجسدية لكلٍّ من الأمّ والطفل.  Walid A. Afifi, Tamara D. Afifi and al., “The Relative Impacts of Uncertainty and Mothers’ Communication on Hopelessness Among Palestinian Refugee Youth” in The American Journal of Orthopsychiatry, Vol. 83, No. 4, (2013): pp. 497. يصف الباحث ياسر الدباغ المجتمع الفلسطيني بأنه مليء بالصدمات النفسية المستمرة والمتعاقبة، حيث أن الأمّهات يعشنَ ظروف اضطهاد الاحتلال العسكري. كما تؤكّد هذا الأمر دراسة في علم النفس، قامت بها مجموعة من الباحثين، قارنت بين الأمهات الفلسطينيات و نظيراتهن الإسرائيليات. وجدوا أن الأمهات الفلسطينيات أكثر إحساساً بعدم الأمان في علاقتهن بأطفالهن من الأمهات الإسرائيليات، Sarit Guttmann-Steinmetz, Anat Shoshani, Khaled Farhan, Moran Aliman, and Gilad Hirschberger: “Living in the Crossfire: Effects of Exposure to Political Violence on Palestinian and Israeli Mothers and Children” in International Journal of Behavioral Development, Vol. 17, No. 1 (2012): pp. 71. وأن الأمّهات غير الآمنات اللاتي يتعرّضن لمستويات عالية من العنف السياسي يعانين من مستويات عالية من الاكتئاب والقلق والضغط النفسي.

بالإضافة إلى القلق على أطفالهن، يُلقى على عاتق الأمّ وحدها حماية أولادها من الجوع عندما يغيب الزوج بسبب الاعتقال أو الاستشهاد، كما عليها أن تتحمل، كسائر الفلسطينيين/ات، تفتيش الجيش الإسرائيلي في أي لحظة، أو ما سمّته إحدى الأمّهات بـ«عملية التعذيب» لِما ينتج عنها من إهانة وخطر واحتمالية فقدان مصدر لقمة العيش.  Nadera Shalhoub-Kevorkian, “Liberating Voices: The Political Implications of Palestinian Mothers Narrating their Loss”, in Women’s Studies International Forum, Vol. 26, No. 5, (2003): pp. 402. حتّى عندما تحاول الأمّهات الفلسطينيّات حماية أطفالهنّ بالفرار بهم إلى الخارج، تستمرّ معها المشاكل النفسية.  ففي مخيمات اللاجئين في لبنان مثلاً، تعاني الأمهات من الإحساس بعدم الأمان والاستقرار. فالحياة في المخيمات صعبة ويطغى عليها الفقر والاكتظاظ، ليتحول اليأس إلى شعور متوارث بين الأجيال.  Walid A. Afifi, Tamara D. Afifi and al. (2013): pp. 495.

تشعر الأم بواجب حماية أطفالها، لكن كيف لها أن تفعل ذلك وهي بنفسها تعيش في حالة من الرعب لعدم توفّر وسيلة لردع العنف الممارس عليها داخل البيت، بسبب عمليات التفتيش المباغتة؟ من بين الأمثلة على هذه الحالة ما ترويه نادرة ش. كيفوركيان عن الأمهات اللواتي يفقدن أحد أبنائهن، فيصبح التهديد أكبر على حياة أبنائها الآخرين. يزداد التهديد لأن «بيت الشهيد» أكثر عرضة لاستهداف جنود الاحتلال، الذين يقومون بعمليات تفتيش بالليل أو النهار، مع أعمال التخريب التي تهدف إلى إرهاب العائلات.  Nadera Shalhoub-Kevorkian, (2003): pp. 400.


أمّ الشهيد ليست «امرأة خارقة»

أصبحت صورة الأطفال المستشهدين والأمّهات الثكلى بُعيد الانتفاضة الأولى رمزاً للمقاومة. غطّت صورة «أم الشهيد» شيئا فشيئاً على صورة المرأة الفلسطينية المناضلة والمنخرطة في العمل السياسي، ليختلط الدور الجندري التقليدي المنوط بها مع دورها في المقاومة. بينما يتّهمها الاحتلال بالإهمال ويطالبها مجتمعها بالصمود وعدم البكاء، تحاول كلّ أمّ التأقلم مع واقعها المأسوي بأدواتها الخاصّة.

تتساءل الأكاديمية سوزان إيفانس: إن كانت الصورة النمطية الشائعة هي أن العلاقة الرابطة بين الأم وابنها أوثق من تلك التي تربطه بوالده والأقوى من بين كل الأحاسيس الإنسانية، فكيف للأم الفلسطينية أن تدعم تضحية أبنائها بأرواحهم؟ الإجابة السهلة والشائعة، حسب إبفانس، هي اتهام الأمهات الفلسطينيات بالتّشدّد واعتبار أن ضغط المجتمع هو ما يدفعهن نحو موقف كهذا. لكنّ إيفانس تبحث عن عناصر أكثر دقّة للإجابة على هذا السؤال، من خلال ما تلاحظه و تدوّنه من تصريحات لأمّهات الشهداء. فخلصت إلى أنّ النساء الفلسطينيات لسنَ متشدّدات أو مصابات بالهستيريا، كما يصمهنّ الكيان الإسرائيلي وبعض الإعلام الغربي، بل يحاولن فقط القيام بالدور الذي ينتظره منهنّ مجتمعهنّ، وهو إعطاء الحياة للمحاربين من أجل التحرير. كما يحاولن مواجهة ألم الثكل بالأدوات التي تمنحها ثقافتهن ووضعيّتهن. في المقابل، يحاول المجتمع دعمهنّ ماديّاً و عاطفيّاً.  Suzanne Evans: “Mothers of Martyrs: A Palestinian Institution with Judaeo-Islamic Roots” in  Journal of Psychology and Judaism, Vol. 23, No. 2, (Summer 1999): pp. 67-68.

يُنظَر إلى دور النساء الفلسطينيات في المقاومة على أنّه الإنجاب ورعاية الأسرة. وعليه، يتمّ اعتبار أنّ أكبر  تضحية يُقدّمنها للأمّة هي تقديم أبنائهنّ للاستشهاد. لكن ما لا يعرفه كثيرون، تعقّب الباحثة ل. ألين، هو كيف تتحدّى النساء الفلسطينيات هذا القالب. فالأمّهات يشعرن بالحزن والألم لفراق أبنائهن الى الأبد، والعديد منهنّ يشعرن بالندم وعقدة الذنب، إذ يعتقدن أنّهنّ السبب في ضياع ابنهنّ المستشهد. Lori A. Allen, “Mothers of Martyrs and Suicide Bombers: The Gender of Ethical Discourse in the Second Palestinian Intifada” in The Arab Studies Journal, Vol. 17, No. 1 (Spring 2009): pp.45. تختلط مشاعر الحزن وعقدة الذنب في قلوب أمّهات الشهداء، اللاتي صرّحن لألين بأنهنّ حاولن منع أبنائهن من المشاركة في المظاهرات ومعاقبتهم، لكن من دون جدوى. وهذا ما يظهر من خلال شهادة إحدى الأمّهات: …بالطبع لدينا حسّ وطني، و نودّ أن يحارب أبناؤنا من أجل أرضهم، و لكنّ الأمّ تبقى أمّاً مهما كان الأمر، {...} ولا ترغب في أن يموت ابنها.

بالرغم من أنّ أمّ الشهيد تتمتّع بمنزلة خاصّة واحترام فائق، ما يمنحها امتياز نقد السلطة الفلسطينية، إلاّ أنّ الثمن فادح. فصدمة الأمّ لفراق ابنها أشدّ من أي مكانة يعطيها إيّاها المجتمع، وتحاول النسوة تخطّيها بالإيمان بقدر وواجب التضحية من أجل القضية الوطنية.


لطالما أحسّ الفلسطينيون بعبء تفسير التناقضات التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي عليهم. فالكثير منهم تتنازعه الرغبة في البقاء والرغبة في التضحية بالنفس من أجل بقاء الشعب، على أملِ أن يمنح للأجيال القادمة حياة أفضل.

واليوم، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، يشاهد العالم يومياً إبادةً ممنهجةً لأهل غزّة. تستعمل وسائل البروباغندا الإسرائيلية نفس الاستراتيجية التي تذكّرنا بتصريحٍ لغولدا مائير: لن نغفر للعرب أبداً أنهم أجبرونا على قتل أطفالهم.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لائحة بأسماء شهداء غزّة من 649 صفحة بينها 14 صفحة لأطفالٍ ما دون السنة
إسرائيل تبتزّ طالبي اللجوء الأفارقة
هوموفوبيا الجامعة اللبنانية تهدّد موقعها الأكاديمي رئيس الجامعة يمنع مناقشة رسالة عن المثلية
تصعيد إسرائيلي على الجبهة اللبنانية: جاهزون لاحتلال الشريط
جيزيل بيليكو تشكر داعميها: بفضلكم أواصل المعركة حتّى النهاية
الشتاء يقترب: موج البحر يطال خيام النازحين