لم يسيطر حزب الله على مجرى السياسة اللبنانية فقط جرّاء المسار العنفي الذي انتهى داخليًا بـ«7 أيّار» وإقليميًا بالحرب السورية. كما لم تشكّل مؤسّساته وسلاحه وارتباطاته الإقليمية مكامن تفوّقه الوحيدة، وإن كانت أساسية في فرض سيطرته على مجرى الأمور. في آخر المطاف، سيطر حزب الله عندما حوّل معارضيه إلى جزء من مشروع السيطرة هذا، يؤدّون أدوارًا في عملية تعميق سطوته، لتصبح «ثنائية 8/14 آذار» إحدى الأدوات في ترسانة الحزب.
لا داعي لنقد «14 آذار»، وهي انحدرت من مشروع سياسي فضفاض في لحظة الـ2005 إلى بقايا تحالف «مهرغل». لا داعي للنقد ليس فقط لكون «14 آذار» قد انتهت بالسياسة، بل لكونها فقدت أي مشروعية سياسية قد اكتسبتها في زمن الاغتيالات. فعادت قواها، مع مرور السنوات، إلى ما كانت إليه قبل هذه اللحظة، تحالفاً لأحزابِ فاسدين وطائفيين ومرتهنين لمشاريع خارجية، كباقي القوى السياسية اللبنانية. وربّما كانت الإشارة الأوضح لهذه العودة ذكرى اغتيال الحريري البارحة، والذي باتت صورته ليست صورة شهيد الاستقلال، بل صورة المهندس الاقتصادي والمالي لانهيارنا الحالي.
بيد أنّ انهيار «14 آذار» بات معلّقًا لكونه القالب الوحيد لمعارضة «حزب الله»، يعود طيفها مع كل استذكار له، كالردّ الوحيد الممكن أمام مشروع السيطرة هذا. وهنا لا بدّ من التذكير أنّ راهننا السياسي هو نتيجة هذه الثنائية، أي نتيجة سياسة مزدوجة، انتهت بهذا النوع من السيطرة الذي بات اليوم مأزق السياسة اللبنانية.
بدايةً، تجد سياسة «التمثيل الحصري» جذورها في تسويات «14 آذار» مع خصومهم، وأشهرها «التحالف الرباعي» في العام 2005 الذي أفرغ الانتخابات من أي مغزى سياسي. لم تكن تلك الخطوة مجرّد تسليم التمثيل الانتخابي لحزبَيْن فحسب، بل أرست ممارسةً انتخابية مفادها تعميم تجربة «الثنائي» لكي تتحوّل الانتخابات إلى استفتاءات ضمن الطوائف.
سُلِّم بمبدأ التمثيل الحصري الذي أخذ أيضًا شكل الدفاع المستميت عن برّي. لكن تمّ دمجه بحملة إعلامية فاحت منها روائح العنصرية والطائفية والتعالي الحضاري. فتمّ عمليًا بناء صورة نمطيّة عن الشيعة، تشارك بها كامل الأطراف، من حزب الله ذاته وإعلاميّي الممانعة وصولًا إلى «14 آذار» وحبّهم للحياة. فتترجم هذا لانشقاق اجتماعي ممزوج بتسويات سياسية، وكأنّ «14 آذار» تطالب حزب الله بحمايتها من «الشيعة».
لم تسقط «14 آذار» ضحية صورتها النمطية عن الآخر، أو منطقها الضيّق لمفهوم التسوية السياسية، أو رهاناتها الكسولة على الحلول السهلة، بل أيضًا ضحية «جاذبية» حزب الله الذي بات نموذجًا للحزب الناجح في السياسة اللبنانية. فوجدت «14 آذار» نفسها أسيرة تناقضات، باتت هي عنوانها الوحيد: إمّا خطاب عنصري وحضاري أو انجذاب لنموذج حزب الله، والتمسّك بخطاب سياديّ مع ارتهان للخليج، وتصعيد قضائي وأمني ينتهي بتسويات سياسية سخيفة، وادّعاء تمثيل وطنيّ ممزوج برفض رواية طائفة بأكملها، ومشاركة بالمحاصصة مع التلطّي وراء خطاب إصلاحي…
انتهت «14 آذار» كشريك حزب الله في الداخل، ليس فقط كجزء من شبكات المحاصصة العابرة للانقسامات، بل كجزء من منظومته الأيديولوجية. شريك في الداخل، ومبتزّ في الخارج، يستغلّ «حزب الله» لإحراز بعض المكاسب، وغالبًا بمعرفة الحزب وتعاونه.
قد لا يكون مهمًّا تكرار هذا النقد لقوى سياسية باتت خارج السياق. بيد أنّه بات من الضروري، في ظلّ «عودة» حزب الله ومعضلته إلى الواجهة، التخلّص من وهم «14 آذار» كجواب لهذه المعضلة. ليس لدينا من جواب اليوم، ولكن لا نستطيع بداية التفكير بإمكانية كهذه طالما هناك وهمٌ يحاصرنا.