استباحة الجسد
قضية تنّورين
قبل بضعة أسابيع، هزت فضيحة جديدة البلاد، أو على الأقل أجهزته المعويّة. أصدرت وزارة الصحة قراراً بسحب منتجات شركة مياه تنورين من الأسواق بسبب عيّنات أثبتت تلوّثها. سادت حالة من الهلع، خاصة بعد صيف شهد موجات من الأمراض المعوية، في بلد يعاني من شبه حالة حصار فيروسي، جراء تراكم مصادر التلوث والأمراض فيه. بعد مرحلة قصيرة من الأخذ والردّ بين الشركة الخاصة والوزارة، شهدت موجاتٍ من الدفاع الطائفي عن «الصناعة الوطنية»، عادت الشركة إلى مزاولة عملها، وانتهت الفضيحة.
لم يكن الهلع ناجماً فقط من حالة تلوث المياه المفترضة، بل جرّاء تسريب «الفحوصات» أيضاً، هذه التقنية التي تتيح لنا رؤية ما لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة. «الفحص» فرض علينا معرفة أمر، كنّا نشكّ به لكنّنا لا نريد التأكّد منه، وهو مدى تلوّث كل ما نستهلكه ونتنشّقه يوميًا في لبنان. لا نريد التأكّد من هذا الأمر، لأنّنا، ببساطة، لا يمكننا فعل أي شيء حيال ما سنتأكّد منه. «فالفحص» أكّد ما نعرفه ونحاول تجاهله، وهو أنّه مع كل نَفَس نتنشّقه وحمّام نأخذه وكرعة ماء نشربها، تدخل إلى جسمنا خلايا غريبة، باتت تقتلنا ببطء.
لا يمكن فعل شيء لوقف هذا، فما فائدة المعرفة؟ «الفحص» في وضع كهذا هو حقيقة قاسية، تزيل آخر دفاع عندنا، أي براءتنا.
حصار الخلايا
لم تكن المرة الأولى التي نُرغَم فيها على معاينة مدى استباحة خلايانا من حالة الانهيار العام حولنا. قبل بضع سنوات، اجتاح وباء الكوليرا البلاد، محوّلًا المياه من حولنا، وفينا، إلى خطر داهم، مليئة ببكتيريا آتية من ماضٍ اعتبرناه وراءنا. قبل ذلك، كان الرابط بين الانهيار الذي أخذ شكل أزمة النفايات والمكبّات، وبين أجساد من يقيم هنا، يمرّ بازدياد حالات سرطان الثدي جراء ما ينبعث من المكبّات الممتلئة من نفاياتنا. عاد السرطان اليوم، محمولًا من سموم آلاف مولدات الكهرباء، ليسجّل لبنان أكبر نسبة زيادة في معدلات وفيات السرطان بين الدول العربية. ويمكن إضافة حالات أخرى من تداخل الانهيار بالخلايا، من البحر الملوّث إلى الطعام الفاسد، إلى الأدوية المزورة.
وفي كل ربط بين المادة والخلايا، تذكير بأنّ الحدود المتخيّلة بين داخل الإنسان وخارجه باتت مخروقة. قد لا نراها بالعين المجرّدة، لكنّ «الفحوصات» والإحصائيات وضيق النفس ووجع المعدة والوفيات المتزايدة كلّها تشير إلى أنّ خلايانا تغيّرت جرّاء كل ما يجري، إلى غير رجعة.
«مجرّد» أجساد وردّة فعلها
لحظة الوعي «الكورونيّة»
لحظة الاعتراف بأنّ داخلنا ليس منيعًا تجاه ما يحدث خارجه، هي لحظة الوعي بأنّنا، في خلايانا وأجسادنا وردّات فعل نظامنا العصبي، لسنا إلا نتيجة ما سماه ميشيل فوكو السياسات الحيوية (biopolitics)، أي ممارسات إدارة حياة الأفراد والتي تأخذ الأجساد كمرتكز لإدارة الكليّات. السياسة لم تمرّ فقط من خلال الأفكار والممارسات الواعية، بل من خلال الجسد، وتقنيات إدارته وتحويله من قِبل السلطات.
لكنّ الاعتراف بهذه الحقيقة يأتي دائمًا متأخرًا، كوننا لا نريد الاعتراف بأنّنا «مجرّد» أجساد. لكن في زمن ليس ببعيد، جرت أوسع عملية إدارة للحياة في العالم، أخذت شكل سياسة الاستجابة لوباء الكورونا. في تلك السنة، تحوّل الأفراد إلى «مجرّد» أجساد، يتمّ تلقيحها وإدارة حركتها وحجرها ومعاينتها دوريًا. خلال تلك السنة، لم يعد هناك ذوات سياسية لديها حقوق، بل مجرد أجساد أو تركيبات من الخلايا ما على الحكومات إلا إدارتها.
كانت ردّة فعل الأفراد على تحويلهم إلى «مجرّد» أجساد، عنيفة. فلا أحد يريد الاعتراف بأن جسده نتاج سياسات عامة، وحريته مضبوطة من تقنيات إدارية أو ما دون سياسية. إنّها صدمة لنرجسية إنسانية، تفضّل التمسّك بوهم الاستقلال الذاتي عن مواجهة هذه الحقيقة. ومن أهمّ جوانب ردّة الفعل هذه، صعود تيار معادٍ للعلم والطب، شكّل تربة خصبة لانفجار نظريات المؤامرة عالميًا، والتي أخذت من وباء الكورونا نقطة ارتكاز لتطوير فكرها الأبوكاليبتي. بعد هذه اللحظة، لم تعد نظريات المؤامرة مجرّد خطاب هامشي، بل باتت تشكّل رافعة لليمين المتطرف، وبالأخص الأميركي منه. وانتقلت من هامش السياسة إلى متنها، مع انتخاب ترامب وتعيينه وزيرَ صحّةٍ اشتهر بمعاداته للمؤسسة الطبية وسياسات التلقيح وسياسات مواجهة وباء الكورونا.
ضرب النرجسيّة اللبنانيّة
لم تكن ردّة فعل الأفراد في لبنان على تحويلهم إلى «مجرّد» أجساد أقل عنفية، وإن أخذت أشكالاً مختلفة. فجاء الوباء بعد عدد من الضربات للنرجسية اللبنانية، كانت قد ذكّرت الأفراد بأنّهم مجرّد خلايا تستباح في أوقات وتدار كالأشياء في أوقات أخرى. جاءت الأزمة الاقتصادية، وحوّلتهم إلى أجساد تحمل دفاتر توفيرها في طوابير أمام المصارف، ومن ثمّ إلى أجساد عالقة في سياراتها تنتظر في طوابير أمام المحطات، ومن ثمّ إلى معدات فارغة تنتظر، أيضًا، في طوابير أمام المخابز. من الصعب الاستمرار بأيّ نرجسية ونحن عالقون في طوابير. كانت «صورة لبنان»- نتاج النرجسية الجماعية- قد بدأت تنهار مع تدفّق النفايات إلى الشوارع، ثمّ جاءت الأزمة المالية، لكي تقضي على تلك الصورة تماماً. وعندما جاء الوباء، كانت المعركة قد انتهت، أفراد باتوا مجرّد أجساد منهكة، من السهل تحويلهم إلى مجرّد تركيب من الخلايا.
أخذت ردّة الفعل شكل انفجار في العنصرية والكراهية، انفجار حاول من خلال تدمير المهمّشين أن يعيد بعضًا من النرجسية للجموع العالقة في الطوابير والمحجورة في المنازل والمسروقة أموالها. ردّة الفعل على الوضع لم تكن ردّة فعل «سياسية»، أي إزاحة لإحساس عام من اللاعدالة من هدفه الفعلي إلى آخر متخيل. كانت أيضًا ردّة فعل عنفية للإدراك القاسي بأنّنا «مجرّد» أجساد، تدار كالأشياء، أجساد مستباحة لأي تلوث أو وباء أو بكتيريا أو سموم.
في وجه هذا القلق الجسدي، لم يجد سكّان هذا البلد إلّا العنف تجاه الأضعف، كمحاولة لإعادة تأكيد «إنسانيتهم».
انقسام العالم الخلويّ
الفروقات الطبقيّة جسديًا
لم يأخذ هذا الإدراك شكل وعي سياسي جديد حيال السياسات الحيوية التي تدير أجسادنا، وهو ما كان ليسمح بمساءلة ديموقراطية لتقنيات الحكم التي تديرنا. لكنّه أخذ، بالإضافة إلى منحى التطرف العنفي، شكل استثمار في أنماط حياة صحيّة، باتت تعمّق الفروقات الطبقية، لكي تدخلها إلى طبيعة خلايانا. انتشرت في السنوات الأخيرة محاولات لتدعيم الصحة وإطالة الحياة (bio-hack)، من ازدياد المكمّلات الغذائية إلى استخدام التقنيات الحديثة وصولًا إلى ترقية الرياضة إلى مستوى عبادة دينية جديدة، أو «العودة» إلى غذاء صناعيّ أقلّ. بطبيعة الحال، تلك التقنيات متاحة لمن يستطيع دفع الثمن الباهظ لهذه السنوات الإضافية من الحياة. وقد تشكّل ظاهرة براين جونسون، المستثمر الذي قرّر تكريس حياته لمحاربة الشيخوخة، أحد أوضح الأمثلة، حيث حوّل جسده إلى مختبر لأجدد التقنيات التي تعد بإطالة الحياة، تقنيات تتطلب المال والوقت.
ورغم أنّ شعار هذا الاهتمام المستجدّ بأنماط الحياة هو «العودة» إلى طبيعية ما، بعد عقود من التصنيع، عودةٌ قد تشكّل التقنية ميزتها الأوليّة، لتمحو الفارق بين الجسد والماكينات التي تزيد طاقته أو تطيل حياته. فبات الجسم، عند المهووسين بأداء أجسادهم، تحت مراقبة دائمة، بين الهواتف الذكية والأساور الذكية والخواتم الذكية، والآن، الزراعات التقنية. بات الجسد كمحرّك، دائمًا تحت المراقبة للتأكّد من أنّه يعمل على أفضل ما فيه. والمشاريع لا تنتهي عند الحد البيولوجي للجسد. فمشروع «نيورولينك»، الذي أسسه أيلون ماسك، يهدف إلى زرع رقاقة إلكترونية صغيرة داخل الدماغ تربط بينه وبين الأجهزة أو الذكاء الاصطناعي من خلال التفكير، ما يجعل أي فرد في أي لحظة يعمل مع تاريخ الإنسانية مربوطاً بدماغه.
لا يُنذر صعود هذه اليوتوبيا التكنولوجية بفروقات اقتصادية وحسب، بل بتعميق للفروقات على صعيد الأجساد والخلايا، بين من سيعيش إلى ما بعد المئة السنة مزروعًا بعالم التقنيات، ومن سيبقى جسداً في زمن الصناعة.
النوادي الرياضيّة
ربّما كان من أوضح الأمثلة لهذا الاهتمام بالصحة، هو انتشار عادة الرياضة وتحويل النوادي الرياضية إلى ما يشبه معابد حديثة للصحة، والمدرِّبين الشخصيين إلى مبشِّرين جدد. بات قطاع الصحة واللياقة البدنية عالميًا يفوق الـ100 مليار دولار سنويًا، ليصل إلى أكثر من 150 ملياراً بعد خمس سنوات. قد يكون هذا خبرًا سارًّا، كون الرياضة من أهم ركائز الصحة. لكنّ الهوس بالبدانة الجسدية هو من ركائز الفاشية أيضًا، سواء في منتصف القرن الفائت مع تشديد الفاشية الألمانية والإيطالية على كمال الجسد والبدانة الرياضية، أو حاليًا، كما ظهر في خطاب وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث، عندما خاطب القوات الأميركية في موضوع اللياقة البدنية، قائلًا: أرى جنودًا أو ضباطًا غير لائقين جسديًا، هذا غير مقبول. كذلك رؤساء وقادة في البنتاغون وأنا أشاهدهم: جنودٌ سمينون أو ضباطٌ سمينون. هذا مظهر سيّى. وهذا ليس مَن نحن. اللياقة البدنية باتت دلالة لانتماء سياسي، أو، وما هو أسوأ، لأخلاق ما. هذا ليس للقول إنّ كل نادٍ هو منبع للفاشية، لكن للإشارة إلى أنّه حول هذا الخطاب الموجّه للجسد، تطورت أيضًا الفاشية الجديدة، والخطابات الذكورية الجديدة، وخطابات صحية باتت تحارب الطب أو النباتيين أو كل من يشكّك بقيَم «الرجولة» الضمنية للنوادي.
القلق على الجسد في لحظة اختفائه
بعد المتعة، الصحّة
في خوفنا من استباحة أجسادنا من السموم والتلوث المحيط بنا، أو في معاندتنا لإدارتنا من قبل سياسات حيوية، أو في حلمنا بتفعيل أداء جسدنا أو إطالة حياته، بتنا نعيش في لحظة قلق صحي حيال الجسد، لحظة ربّما تلت لحظةَ الابتهاج بقدرته على المتعة والجنس. وكأنّ العالم واجه أزمة ذنب لاختباره المتعة من خلال الجسد منذ منتصف القرن الفائت إلى بداية القرن الحالي، وقرّر تأديب هذا الجسد وتحويله إلى «مجرّد» موضوع صحة عامة. هو ذنب حيال ما بات يُعتبَر إفراط الماضي وتجاوزاته، كما هو خوف من الإدراك المتزايد أن ما من شيء «طبيعي» متبقٍّ في جسدنا. أي أنّ طبيعتنا البيولوجية التي شكّلت مصدر نطرياتنا السياسية، باتت اليوم نتيجة سياسات وتقنيات غير «طبيعية». في لحظة الاغتراب هذه، التي نعيشها من أجسادنا، نحاول التمسّك بالطبيعة بأي شكل، أو الهروب منها بأي شكل.
القلق لا يحبّ الالتباس.
خلايا العالم العربي
الفكر السياسي، خاصة العربي منه، لا يحب الخلايا، هو فكر ينطلق من الفرد وسيادته العقلية. فيتمسك بالفرد، حتى في لحظة فنائه وتحويله إلى مجرّد أجساد أو خلايا أو أرقام. فيبدو هذا الفكر وكأنّه خارج عن السياق، ليتحوّل تحليله إلى شيء أقرب إلى الدعاء أو التمنّي. العالم العربي يُدار وكأنه خلايا، لكن يفكر عن ذاته وكأنّه فرد. ومع توسّع الهوة بين الخلايا والفرد، تزداد ميلانكوليا هذا الفكر الذي لم يستطع التخلي بعد عن أوهام السياسة التقليدية. ولن نستطيع مواجهة تقنيات إدارتنا ما دمنا نفضّل التمسّك بهذا الفكر على حساب الواقع.