في نيسان الماضي، دعيت لأشارك في محاضرة حول الذكرى السادسة والأربعين للحرب الأهلية اللبنانية، في الجامعة الأميركية في بيروت. كانت زميلتي في النقاش طالبة دكتوراه في علم النفس، بحثها متخصّص بمفهوم التروما وتفرّعاته في الشرق الأوسط.
ومع انتهاء المداخلات، دار نقاش مفتوح مع الحضور المكوَّن معظمه من طلاب وناشطين سياسيين مستقلين، وتوجّهت معظم الاسئلة إلى زميلتي. فكان معظم الحضور مأسورين بالبعد النفسي للحرب الأهلية وتداعياته عل الوضع السياسي اللبناني الحالي. ما لم أتوقعّه هو أسئلتهم المباشرة عن كيفية مواجهة وتفكيك «تروما الحرب الأهلية» التي ما زالت، بالنسبة لهم، تتربّع في ذهون ذويهم وتشكّل الحاجز الأساس أمام تخطّي ذويهم لهواجسهم الطائفية والسياسية.
متى تحوّلت الحرب الأهلية، ومعها السياسية، إلى مجرّد تروما نفسية؟
يكتب الناقد الثقافي الإنكليزي، مارك فيشر، في كتابه «الواقعية الرأسمالية»، عن استحالة النظرة السياسية المهيمنة بأن تربط بين العوامل الاجتماعية والحالات النفسية في عصرنا. إذ إنّ المفهوم السائد يفسّر هذه التقلبّات النفسية ضمن إطار كيميائي بيولوجي محكم. وهذا ليس تفسيراً بريئاً لفيشر. فهناك مستفيد من تلك النظرة، وهو رأس المال. فمقاربةٌ كهذه تعزّز الانحلال الاجتماعي الذي يهدف أصلًا إليه النظام الرأسمالي، ما يؤمّن سوقاً مربحة لشركات الأدوية الضخمة كي تبيع منتجاتها.
والخلاصة، حسب فيشر، أنّ مقاربةً كهذه تنفي أيّ بُعد سياسي ممكن للمشاكل النفسية.
بالعودة إلى حربنا الأهلية.
ربطت معظم أسئلة الحضور الوضع السياسي وتجذّر الطائفية السياسية بآثار الحرب الأهلية، بقراءة تلخص هذا الوضع بجذوره النفسية ليس إلا. وهذا يعني، حسب هذه القراءة، أنّ الخروج من معضلتنا السياسية يتطلب استحضار حلولٍ من قاموس علم النفس، قد تساعد بتفكيك هذه البنية السياسية.
الحرب تروما تحتاج إلى علاج.
ولكن هناك مشاكل في هذا التلخيص، قد تعبّر عن سطوة هذا المفهوم الذي تحدّث عنه فيشر.
فلماذا، أولًا، هذا الإصرار على إسقاط وتحميل أهلنا هذه التروما، أو لصق اضطرابات نفسية على كل فرد نختلف معه؟ فيصبح المرء الذي يمتلك مبادئ متناقضة يعاني من «انفصام»، والذي لا يرى فائدة من الانتخابات القادمة «مكتئب»، والذي يرى في الأحزاب الطائفية مصلحته «مصاب بالتروما». وراء هذه العبارات، إخفاء للأسباب أو العوامل المادية والسياسية الاجتماعية. فيصبح التشخيص النفسي طريقاً مختصراً لاجتياز عوائق الحياة اليومية والطريق الوعرة للعمل السياسي في لبنان.
ثانياً، ولنفترض أنّ سرديّة هذا الجمهور المكوَّن من الطلاب عمومًا، مرتبطة بعض الشيء بالواقع، أي أن الجيل الذي سبقهم فعليًا سجين تلك الأحداث، فهل هذا يعني أن طريق الخروج من أزمات لبنان المتراكمة تمرّ عبر بضعة جلسات مع معالج نفسي وروشيتة لمضادات الاكتئاب؟ أوليس في هذا نوع من التسخيف للعمل السياسي؟
ربّما كان هذا الإسقاط من النفسي على السياسي يحمل نوعًا من الهيمنة الجيليّة التي لا ترى في اختلاف المبادئ والآراء والثقافة السياسية ضمن محيطها إلّا نوعاً من السقوط النفسي الذي يتطلّب علاجًا. وهذا البحث عن مساحات آمنة، تستمد أمنها من تجانس مبادئها ومنطلقاتها، يحاكي البحث المستميت عن صفاء أيديولوجي عند بيئات الأحزاب اللبنانية.
هذا لا يعني أنّ لا فائدة في البحث عن الأبعاد النفسية للعوامل الاجتماعية. فمن دون شكّ أنّ حملات التوعية التي قامت بها منظمات المجتمع المدني تجاه كسر «تابوهات» الأمراض النفسية ومعالجتها في الأعوام الأخيرة لاقت نجاحاً واسعاً ومهمّاً. فحملات مثل تلك التي أطلقتها جمعية EMBRACE كتأمين خط ساخن، هي مكسب لجميع اللبنانيين. ومن دون شك أيضًا أن التحركات التحررية الذي شهدها الغرب، مثل الحركات النسوية أو الحركات التي تقاوم العنف الذي تواجهه الفئات المهمشة من لاجئين أو مجتمع الميم، خلقت سياقًا ومساحة للاستماع وتسليط الضوء على سردية الضحايا ومشاعرهم، ما يسمح لهم بالمشاركة بطريقة تحرّرية وتحويل ما أصابهم إلى حلّ سياسي.
لكن هناك حدود سياسية لهذا السياق، وهناك أيضًا خطورة في ربط مشاعر وأحاسيس أفراد المجتمع بأي عمل سياسي جماعي تحرّري. فلا يمكن بناء مشروع سياسي ينطلق فقط من مراعاة أحاسيس الأفراد الذين نأمل بتحريرهم.
السياسة ليست أخلاقاً فرديّة، وإن كنّا نعاني منها فرديًا.
وبالعودة إلى الاستحالة.
ربّما طغت المصائب على قدرتنا على تكوين رؤية سياسية راديكالية، فنذهب نحو الإطار النفسي المشاعري. وربّما يفضّل البعض هذا الإطار على القيام بعملية نقد ذاتي. فبعد هزيمة المعارضة في الانتخابات الماضية، وهزيمة ثورة 17 تشرين، والهزيمة الدموية التي عشناها بعد انفجار 4 آب، لم يخرج أي من ممثلي المعارضة ليقدّم نقدًا ذاتيًا، بل بالعكس، يطالبنا العديد بالتوجه معصوبي الأعين إلى هزيمة جديدة. وربّما كان هذا الإصرار على حلول بسيكولوجية ينمّ عن هذا الفشل، فشلنا قبل أن يكون فشل المجتمع.
ففي غياب أي مشروع سياسي، قد تقدّم حبة السيبراليكس الحلّ للنظام الطائفي.