ذكّرني هادي ابن حارتي صديق العمر الشاقّ، خلال نقاشنا عن مسألة السيادة وأحقية الشعب في أرضه، بفكرة أساسية في هذه القضية: ألفة المكان. والألفة غير المعرفة، أكثر من الذاكرة، أقرب للقلب من الخبرة. تجمع ألفة الإنسان للمكان بين مسارَي المعقول والمحسوس إلى أمرٍ يتجاوزهما.
يتمرّن العازف الموسيقي المخلص أعواماً بل عقوداً، حتى تبلغ علاقته بالآلة درجة الألفة. وهناك، عند هذه الدرجة تذوب معرفته النظرية مع ذاكرته العضلية وذاكرته النغمية لتنطُق أحاسيسه في الآلة وعبرها. هناك، تنزرع الآلة امتداداً مباشراً للإنسان، فتصبح مثل أي جزء من أجزائه تعبيراً خاصاً عن كليّته.
المذهل في علاقتنا بأماكننا أنّنا لا نحتاج حتى إلى توظيفها كي نألفها، أو بالأحرى لا نحتاج إلى نية توظيفها. بل يكفي أن نتّخذ داخلها أكثر الوضعيات سكوناً، أن نقرفص ونتنفّس فحسب، فيمرّ الوقت ونتآلف بحدٍ ما. حتى نخال أحياناً أن المكان هو الذي يوظفنا ويستعملنا.
وهنا تبرز قدرة المكان على جذب الإنسان إلى خارج الجسد. فإن مجرّد الجلوس والتنفس يشترط مساحةً حيوية أكبر من الجسد تستدعي الألفة. فما بالك بكامل أنواع الحركة وأشكالها التي تستدعي التآلف مع مساحة أكبر وأكبر.
عندما يعزف الأستاذ في آلته، لا يتعلّق وعيُه بتفاصيلها المعقولة. ولكي يصبح العود عضواً في الجسم الإنساني، عليه أن يحتجب عن عيون العازف الكامل كي لا يتبقى في وعيه إلّا نيّته الموسيقية الصافية.
وهكذا المكان. إذ نحن بداخله لا نعيه مكاناً بل طبيعةً، كي نتمكّن من العيش أي من التواجد داخل نوايانا الحياتية. ونحن بداخله، لا نخترع للمكان خانةَ المكان، كي نبقيه داخل معادلة الألفة الجامعة بين العقلي والحسي.
وما الغربة؟
أن تخسر ألفتك الكاملة بالمكان الذي تسميه لكَ، وائتلافكما في كونٍ واحد.
وما صناعة الغربة؟
أن تجثمَ فوق صدرك عمليةٌ يومية منهجية على كل المستويات، هدفها أن تستقطع علاقتك بالمكان بلا هوادة حتى تبقيك في غربة من مكانك.
وإلامَ يؤول هذا؟
إلى إخراج الألفة من المكان.
لأنّ الائتلاف بين الإنسان والمكان إذا كُسر، يُترك الطرفان إلى أدنى مستويات وجوديهما: مادةٌ خام للاستخراج. يُترك الإنسان للبحث بلا جدوى عن ألفة مستحدثة في لا-مكان مستحدث هي المساحة الافتراضية. وهو بحث محتّم الفشل عن تآلف مستحيل لأنه يقوم أصلاً على فصل الطبيعتين الهوائية والطينية اللتين تجتمعان في الإنسان، أي قدرته على الخيال واللغة من جهة وقدرته على الاختبار المادّي المباشر.
فسخُ الألفة الإنسانية-المكانية يوازيه فسخ الميثاق الطينيّ-الهوائي، أي مزيدٌ من القلق القابل للاستثمار في السعي الهستيريّ نحو المنتج المقبل والموضة المقبلة، جرياً عبثياً وراء طمأنينة قصيرة النفس تأتي بالتشابه مع سائد ما في المساحة الافتراضية، مع ديكور غرفة ما من غرفها.
أما المكان فيُترك يتيماً عن الإنسان، عارياً من إمكانه. والإنسان في اللغة هو أيضاً إنسانُ العين، أي الحدقة أو الفُتحة التي يدخل منها الضوء إلى العين فترى. بغيابه أو بتغييبه، تسقط عن المكان صفةُ المكان التي تشترط أن يسكُن فيه الإنسان فيُرى، والسكنة والسَكَن من السكون، والسكون وجه من وجوه الألفة.
من هذا المنظور تبدو السلطة اللبنانية بكل تفاصيلها عدوة مطلقة لألفة المكان.
فهي من ناحية قائمة على تقطيعه، ومن ناحية اخرى هي تنظر له وللانسان كمواد خام لتكتسب بذلك موقع السمسرة. فهي إذن معنية دوماً بتخريب أي نزعة ائتلافية بين الإنسان والمكان.
هكذا يتحول المكان إلى بيئة، والجبل إلى مادة خام، و… وهنا يأتي من يتفنّن فوق ثقب في صدرنا. طبعاً، لأنه لا يعرف أن بيروت ما زالت مكاننا وكذلك هذه البلاد. لا يتيح له وجوده أن يفهم وقوع هذا المكان موقع الجسد فينا، جسدنا أيضاً مادةٌ خام.
هكذا تستقطع الكهرباء وقتك بعشوائية جنونية لا انتظام لها، كمن يقاطع أستاذ العود في عزفه. فإما يكسر العازف العود على رأس المقاطع أو تبدأ علاقته مع الآلة بالاهتزاز، فتظهر تفاصيل المعقولات التي كانت محتجبة، ويبدأ برؤية القيثارة من عقله فقط. فتسقط الألفة وتبدأ الغربة بنبش حفرتها فيه.
هكذا سارع الإنسان إلى البحث عن أيّ فعل يتّخذه داخل الخراب كي يمنع التخريب عن النيل من ألفته المكان. وهكذا، في قلب بيروت من يقيم ورشات تكسير لمبانٍ لم يحطمها التفجير، لتوسيع الموقف لسيارات تقف ساعات على طوابير المحطات لتمتلئ بمادة خام أخرى، من مكان آخر.
هكذا، سارعت السلطة بوجهها الأمني إلى استحيان فرصة الكورونا لمحو كل آثار محاولاتنا في 17 تشرين أن نعيد فرض ألفتنا مع المكان، بل أن نبرز ائتلافنا مع المكان في وجه السلطة. من هذا الائتلاف قاتلناهم ونقاتلهم، بطبيعتينا الهوائية والطينية. ائتلاف الإنسان مع الزاروب، مع اتجاه الريح، مع اللهجة، مع النبرة، مع التاريخ المكنون في المكان الحيوي. أو ائتلاف الإنسان مع عضو ضُرب في جسده، وميثاقه الأول مع جسده أنه عند ذلك يضرب الضارب بيد وبالثانية يعيد العضو المصاب سليماً إلى كليّته في الجسد.
لكنّ الائتلاف مع المكان لا يساوي مجموع الائتلافات الجزئية مع أجزاء المكان. كما أنّ الائتلاف مع العود لا يساوي مجموع الائتلافات مع كل وتر مثلاً! ما يتبقى لكمال الائتلاف هو التآلف مع العلاقة القائمة بين هذه الأوتار. بدونه تبقى جزئيات المكان عاجزةً عن الإشارة إليه كمكان كلّي، ونبقى بذلك عاجزين عن الوصول إلى الألفة مع المكان الوطني، التي تُبنى عليها شرعية الشعب والدولة، أي عاجزين عن إنتاج اللغة السياسية. لأن اللغة السياسية ترسم الرابطة الأخلاقية بين الجزئيات الإنسانية والمكانية ضمن الكلّ المكاني.
ونكون مخطئين إذا اعتبرنا أن إنتاجنا لغةً سياسية سيحيلنا طبيعياً إلى التواجد على نفس مستوى أعدائنا في السلطة. فهؤلاء يعيشون خارج المكان كما أظهرنا وبالتالي خارج أي نوع من الأخلاقيات السياسية كما هو بيّن. وبرؤيتهم الإنسان-المكان كمادة أولية خام، تحقّ فيهم صفة الحيوان الذي لا قدرة عقلية له تخرجه من أحادية اختباره الماديّ. وبذلك لا يجوز قياس أعمالهم أصلاً في أي ميزان أخلاقي، لأنهم يجسدون بشريةً حيوانيةً سابقة لولادة الأخلاق كمفهوم إنساني.
المثير للسخرية أنهم يستكبرون على عامّة الناس، لأنهم يظنون أن الله فضّلهم بالتعلّم الأكاديمي أو المرجعيّ والإلمام بمظاهر الحداثة. فيحسبون أن العقل هو قدرة الإنسان على السفسطة والكذب وحساب الأرباح، وهو نقيض ذلك. لأن الفهم هذا الذي يحسبونه عقلاً موجود بدرجات متفاوتة في الحيوان، يحبسهم أكثر في غريزتهم المادية، بينما يوازنها العقل الفطريّ لدى الإنسان العاديّ في الألفة والرحمة والمروءة والخلق الحسن دون حاجة لكثير من التمنطق.
لكنهم من هذه الصفة الحيوانية يمسكون مادة البلاد بأسرها، من تفتيتهم المكان يطبقون على خناق كلّيته. وكما تكمن مهمة اختراع اللغة السياسية في لبنان في اكتشاف العلاقة الكليّة مع المكان اللبناني، تكمن أيضاً في اختراع معايير أخلاقية للقول-الفعل السياسي.
يقول فيلسوف التاريخ نديم البيطار إبن بلدة بينو العكارية: تقع كل القيم فريسة العدم، إلا قيمة إعطاء القيم.
لا بدّ من إنتاج أخلاقيات سياسية صريحة، تُستنبط من تراكم تجربتنا الثورية داخل الواقع الماديّ. ولتسقط الحداثة، وليسقط ما بعدها. وليسقط الاستعمار، وليسقط ما بعده.
…..
يُتبع