اكتساح
ربّما كانت المعركة نموذجية، وجاءت النتائج تكريسًا لهذا العمل القاعدي طويل الأمد الذي قامت به مجموعة «النقابة تنتفض». لكن اللافت هو صمت السلطة، باستثناء بعض الشائعات السخيفة التي سوّقتها ماكينات حزبية. فلم تستطع السلطة أنّ تتّفق على مرشّح جديًّا، أو تخوض معركة فعلية في وجه قوى الثورة. ويعود ذلك إلى فقدانها أبسط شروط السياسة، أي القدرة على الكلام.
فماذا كان لتيار المستقبل أن يقدّمه لمناصريه في هذا اليوم، غير تهويل مذهبي ساقط أو شدّ عصب مناطقي سخيف؟ وماذا كان يمكن للأحزاب قوله لجمهورها، غير الاقتراع من أجل تحديد الأحجام لمجرّد تحديد الأحجام؟ ربّما كان المثال الأوضح لفقدان المعنى عند «القوات اللبنانية» التي بات واضحًا خروجها عن السياسة لتصبح مهووسة بحجمها، وهو هوس يتزايد مع كل هزيمة تتلقاها من قوى المعارضة.
قد لا تُعمَّم نتائج هذا الاكتساح في السنة الانتخابية المقبلة. لكنّها دلالة على اهتراء البنية الحزبية للنظام، وهو اهتراء يطال الأحزاب بنسب مختلفة. ولكن بات واضحًا أنّه ليس للسلطة ما تقدّمه. أبعد من ذلك، ليس للسلطة ما تقوله بعد اليوم.
اعتذار
جاء الاعتذار كـ«لا-حدث»، رغم بعض التسكير للطرقات والتلاعب بسعر الصرف اللذين لم يدوما أكثر من بضع ساعات. جاء كـ«لا-حدث» لأنّ الحكومة المطروحة لو أبصرت النور كانت هي أيضاً «لا-حدثاً»، مجرّد توزيع لحقائب بين أقطاب متصارعين لا يمتّ بأي صلة للأزمة الراهنة. فالحكومة، كالاعتذار، هي دلالة عن صمت السلطة، عن عدم قدرتها على قول أي كلام، خارج المناكفات الشخصية بين أقطابها المهترئين.
فما سقط مع الاعتذار هو ازدواجية ابتزاز الحريري وعرقلة عون: ابتزاز الحريري الفارغ بأنّه مفتاح الدعم الخارجي، وعرقلة عون التي ابتكرها كسياسة رئاسية. وهي ازدواجية قائمة على الصمت المتبادل، صمت الابتزاز وصمت العرقلة. لكنه أيضًا صمت من يدرك أنّه لم يعد له غير هذه الإزدواجية لكي يحكم البلاد من خلالها.
بعد الاعتذار، كان سكوت آخر. سكوت الاقتراحات المطروحة، والتي لا تدّل إلّا على إفلاس السلطة: فؤاد المخزومي، نجيب ميقاتي، فيصل كرامي… أسماء لا تعني إلا فقدان المعنى. وربّما كان الخيار الأكثر ترجيحًا هو الاستكمال بسياسة الصمت الحالية، سياسة حسّان دياب.
حصانات
ليس للسلطة ما تقوله في هذا الموضوع. فهي تدرك أنّها مذنبة. هي تدرك أنّها هندست أكبر جريمة منذ انتهاء الحرب الأهلية. هي تدرك أنّ أي تحقيق، مهما كان محدودًا يعني اتهامها. هي تدرك أنّ لا عذر لها غير إشهار عدم كفاءتها واهترائها. فماذا يمكن أن يقوله محمد فهمي للنعوش التي طردته من منزله؟ وكيف يمكن لعباس إبراهيم أن يبرّر صمته، وهو الذي اعتاد على الصمت لكي يبني صورته كرجل الظل؟ لا شيء.
في وجه الإنفجار، ليس للسلطة غير الصمت، ريثما ننسى. لكنّ 4 آب قادم، ليذكّر الجميع بأنّ الغضب هو آخر معاقل المعنى في ظل الصمت الذي تريده السلطة كأسلوب حكم.
صمت الانهيار
لم يبقَ لها إلّا الاتكال على صمت الانهيار لكي تستمرّ بموقعها: صمت الطوابير، صمت الجوع، صمت الهجرة، صمت الموت… ليس لها ما تقدّمه في الانتخابات المقبلة إلّا التصويت بالصمت. هي لم تعد سلطة في وجه انهيار، هي سلطة الانهيار، سلطة لم يعد لها معنى إلّا لأنّنا ننهار.
صمتت السلطة لأنه لم يبقَ ما تقوله. لكنّ سقوطها رهن كسر صمت الانهيار. فنحن لم نعد في مواجهة مع سلطة وأحزابها، بل مع الانهيار.