هنا يبدأ تسليع التعليم، من ضرب ميزانية الجامعة اللبنانية، قبل دولَرة أقساط الجامعات الخاصة. وبطبيعة الحال، فإنّ الظاهرتَين مترابطتان.
أمّا جديد العام الحالي، فهو اقتطاع 10.33 مليار ليرة من ميزانية الجامعة، أي 2.7 ٪ منها، لتصبح 364 مليار ليرة، وطبعاً، بالليرة اللبنانية. غني عن التذكير، أن ميزانية العام الفائت لم تكن كافية لتأمين أوراق نكتب عليها أجوبة الامتحانات النهائية.
لكنّ الموضوع لا يتعلّق بهذا الاقتطاع حصراً، لا سيّما وأنّه منسجم مع روحيّة مشروع الموازنة 2021، أي، روحية هدم القطاع العام. عموماً، تضرب الموازنة الأمن الاجتماعي لموظّفي القطاع العام، تحديداً عبر تقويض المعاشات التقاعدية والمخصّصات والتمهيد لدمج الصناديق.
كل ذلك أسوةً بتوصيات صندوق النقد الدولي، علّه، علّه، ينعم علينا بعملةٍ صعبة. بالنتيجة، تضرب الموازنة كافة وظائف القطاع العام، لدرجة ألا يفكّر أحد بها في المستقبل. كل الوظائف، ضمناً، أساتذة الجامعة اللبنانية.
إذاً، ضُرِبَت الجامعة لناحية كادرها البشري، كما لناحية ميزانيّتها. وهنا الحاجة لمراجعة ما تيسَّر من الأرقام.
الملاحظات التالية مبنية على قراءة جداول قطع الحساب لبند «التعليم الجامعي» (وهو يتضمّن ميزانية الجامعة)، ومشاريع الموازنات الصادرة، وما صُرِفَ للجامعة اللبنانية في الموازنات المُعَدَّة وفقَ القاعدة الإثنَي-عشرية، وتقديرات الجامعة لنفقاتها – من الأعوام 2005 حتّى العام 2021.
أن تُراجع أرقام الجامعة اللبنانية، دون أن تخرج بخلاصةٍ واضحة، هو بحدّ ذاته خلاصة واضحة.
1. اللاتخطيط:
لا يمكن أن نستتبع أي نمط من الرياضيَّات في الأرقام. ولا مرّة وُجِدَ رابط منطقي بين رقمٍ وآخر في الجداول. ولا مرّة تشرح الأرقام (وهذا ما صُمّمَت الموازنة لتفعله) استراتيجية الحكومة تجاه الجامعة. «هذا العام ندعم، هذا العام نتقشّف، في هذه الأعوام نرفع كلفة التشغيل تدريجياً، في هذا العام نساند الرواتب لحل معضلة التفرّغ». كل هذا التخطيط مفقود. مفقود حدّ جعل الأرقام مضحكة: مثلاً، هذه أرقام قطع الحساب في 5 أعوامٍ متتالية: 174/ 253/ 271/ 200/ 262. حلّل، ثم ناقش. في موضعٍ آخر، تلامس النفقات الجارية الصفر لخمسة أعوامٍ متتالية، وتكاد تكون كل دفعات الحكومة للجامعة محصورة بالأجور والرواتب.
2. التشحيل:
في كل عام، ترفع الجامعة اللبنانية مشروع موازنتها لوزارة المالية عبر وزير التربية، لكن لم تقتنع وزارة المالية يوماً بما وصلها، ودائماً ما كانت تجد مبررات للتشحيل من هذه الموازنة، حتى بلغ مجموع «التشحيل» المتراكم من عام 2005 الى عام 2014 نحو 210 مليارات ليرة.
3. الاقتطاعات:
للدقّة، هنا الحديث عن 3 مستويات من التشحيل:
A. ما ذُكر للتَوّ، حول مَيل الحكومة إلى الإنفاق بدرجةٍ أقل من تقديرات الجامعة.
B. التشحيل بالمُطلَق، أي في أنّ إنفاق الحكومة أو حتى تقديرات الجامعة نفسها لم تكن يوماً كافية لتطويرها بالشكل المطلوب. هنا كان التشحيل نسبةً لرقمٍ خيالي يُفترض به تشغيل الجامعة بشكلٍ سليم (أقدّره كحدٍّ أدنى بضعفَي الرقم الحالي).
C. التشحيل المباشر، وهو الاقتطاع التدريجي للميزانية، وهذا ما بدأ بالتحديد مع موازنة العام 2018، وفيها عرفت الميزانية حدّها الأعلى على الإطلاق (ساهم في ذلك ارتفاع بند الرواتب والأجور نظراً للتقاعد المبكر المتعلّق بسلسلة الرتب حينها)، بالشكل التالي: في العام 2018: 419 (مليار ليرة)، ثم 382، ثم 375، ثم 364 في العام 2021.
كلّ هذا في ما يتعلّق بالميزانية وحدها. فما بالك إن كانت ميزانية الجامعة الرسمية التي تمتدّ على كل البلد تساوي 380 مليار ليرة، بينما تساوي ميزانية جامعة خاصّة لها مجمّع واحد فقط 492 مليون دولار (أي 738 مليار ليرة، بسعر الصرف الرسمي، يعني تقريباً الضعف)؟ ما بالك في أنّ 85% من الميزانية هي للرواتب والأجور و15% فقط كلفةً للتشغيل؟ وأنّ هذه الرواتب والأجور موزّعة بحسب ملف التفرّغ، أو بالأحرى اللاتفرّغ، لِكونه عالقاً. للعلم، حوالي ربع الأساتذة فقط هم من المتفرّغين، والثلاثة أرباع متعاقدون، بينما يفترض الوضع المثالي أن تكون النسب معكوسة.
الملاحظات المذكورة أعلاه، بذاتها، هي ملاحظات تقنية تتعلّق بالأرقام. لكنّ صلب الموضوع ليس هنا، بل هو في دلالة هذه الأرقام على المستوى السياسي. موضوع الموازنة بالأساس سياسيّ، ولا يُمكن أن يُختزَل إلى نقاش التقنيّات. ومن إنفاق الدولة على قطاعها التعليمي، تفهم منطقها تجاه الشعب. أمّا منطق اليوم، فهو التسليع. ألف باء الاقتصاد النيوليبرالي. بالمناسبة، «تسليع التعليم» الذي ناهضناه مؤخّراً، لا ينحصر باتّجاه رفع الأقساط، بل يشمل كذلك ضرب الجودَة. وهذا ما يحصل في الجامعة اللبنانية. صحيح أن القسط رمزي (علماً أنّ كُثراً أمسوا عاجزين عن دفعه)، إنّما علامَ يحصل الطالب لقاء هذا القسط؟
اليوم، وفق المنطق المُتَّبع، تُحدّق بالجامعة خطورة أوسع من أن يُعبَّر عنها بمقال. أكاد أقول، بقلق، أنّها تواجه أعوامها الأخيرة؛ وهذا ليس بحادث، بل نتيجة حتمية لسياساتٍ ممنهجة اعتمدتها السلطة.
الجامعة اللبنانية تلفظ أنفاسها الأخيرة. وضرب هذه المؤسسة يعني ضرب مجتمعٍ بأكمله، أو للدقّة، الأكثرية منه. يعني تهميش الفئات الاجتماعية المُهمَّشة أصلاً.
تُكثّف الجامعة اللبنانية المسألة الطبقية في البلد، حيث بتنا نتلمّس أنّ التعليم عالي الجودة يتّجه ليصير امتيازاً لقلّة، وهذا يستتبع أنّ الوظائف بدورها ستصبح امتيازاً، وهذا يستتبع أن الشأن العام والإدارة السياسية/ الاقتصادية للبلد ستبقى امتيازاً يُدَوّر بين الفئات العليا حصراً. وما ضربُ الجامعة اللبنانية سوى وسيلة من وسائل إعادة تجديد هيمنة الطبقة الحاكمة وترميم النظام.
قال الجنوبيّون لأحمد الأسعد «بدنا نعلّم ولادنا»، أجاب: لشو، بيكفي ابني كامل عم يتعلّم.
عدنا إلى هذه الخانة. والحل؟ ليس بالتقنيّات فحسب. ليس بالعمل «النقابَوي» الذي يحصر خطابه بالحفاظ على المكتسبات، وإن كان من المفيد الحفاظ عليها. الإشكالية هنا تبدأ بالإجابة على السؤال التالي: برأينا، ما هي وظيفة الجامعة اللبنانية في المجتمع؟