مشيتُ بين الركام في بيروت. مشيتُ بين حاناتٍ ومقاهٍ كنتُ أرتادها، وتوقّفتُ طويلاً عند المبنى الذي سكنتُه ذات مرّة. لم يبقَ أحد داخله. صمتَ صوتُ التلفزيون في شقّة جاريّ العجوزَيْن. كان الرجل مقعَداً، وزوجته تغسل رئتيها مرّاتٍ في الأسبوع. لكنّهما كانا يعثران دائماً على برنامج سياسيّ يشاهدانه بصوتٍ مرتفع، ويتشاجران مع ضيوفه من وراء الشاشة. رغم سنّهما، لم يفقدا الأمل بأنّ البلد سيتحسّن.
سكنتُ بالقرب من المرفأ بين صيف 2005 وبداية 2011. كانت الاغتيالات الكبرى قد وقعت قبل انتقالي للسكن هناك، وغادرتُ قبل اندلاع الثورة السوريّة بشهر واحد. لم أترك المنطقة إلا خلال حرب تمّوز. لسببٍ ما، ظننتُ أنّ العيش قرب البحر أثناء الحروب ليس آمناً. أكتب ذلك وأفكّر كم غريبٌ أنّنا نؤرّخ حياتنا بهذه الطريقة. لكن، أيّ حيلةٍ أخرى لدينا؟
فحتّى أثناء سيري في الجمّيزة، كانت ذكريات المنطقة تختلط في ذهني بذكريات صيف 2006. ففي ذلك العام، على ما أذكر، كانت المرّة الأخيرة التي سرتُ فيها بين الركام. كان ذلك في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. كانت حرب تمّوز قد انتهت، والمباني تهدّمت، لكنّي كنتُ أسير آنذاك مزهوّاً بالنصر. فمَن تراه يكترث للحجر حين نكون قد نجحنا على أن نقبض على التاريخ بأيدينا؟
لم أكن أعلم عندها أنّ هذا النصر ستليه هزائم مقبلة، وأنّنا بدحر العدوّ نمهّد لتلك الصورة الثلاثيّة التي ستظهر بعد أعوام لتجمع قائد «النصر الإلهي» ببشّار الأسد ومحمود أحمدي نجاد في دمشق، وتعلن تكريسَ محورٍ باتت جميع أضلاعه تعلم أنّ لا حياة بعد الآن لواحدها دون الآخر.
مشيتُ بين الركام في بيروت. أنظر إلى المرفأ الذي كان، وأفكّر بنترات الأمونيوم وبالندم على أشياء كثيرة قمتُ بها في حياتي، ومنها عدم متابعة دراسة الكيمياء رغم قبولي في هذا الاختصاص في الجامعة. لو فعلتُ، لكنتُ الآن قادراً ربّما على تحليل كيفيّة اشتعال المادّة، وأسباب ذلك اللون الزهريّ الذي غطّى السماء. ولكنتُ عرفتُ ما إذا كان الانفجار ناجماً عن الـ2800 طنّ التي جرى تخزينها في المرفأ العام 2014، أم أنّ حجم الانفجار يثبت أنّ ثمّة من تصرّف بتلك المادّة منذ ذلك الحين.
لكن، رغم عدم تخصّصي في الكيمياء، تمكّنتُ من أن أعرف أنّ تلك المادّة ازدهرت في منطقتنا مع ازدهار الحروب فيها قبل سنوات. تلك الحروب نفسها التي يتواجد فيها حزب المقاومة نفسه، وقد بات الآن حزباً عابراً للحدود ومتعدّد المهمّات في خدمة المحور ذات الصورة الثلاثيّة إيّاها.
لقد شغلت تلك المادّة أعداء الحزب المفترضين وأصدقاءه المخلصين، على حدّ سواء، في العراق وفي سوريا وفي فلسطين وربّما في اليمن أيضاً. ورغم استخدام نيترات الأمونيوم كسماد للأرض، لم يكن «الجهاد الزراعيّ» هو ما شغل أصدقاء الحزب وأعداءه، بل صناعة المتفجّرات والصواريخ الكيميائيّة.
لو عرف حزب المقاومة بوجود تلك الأطنان عندنا هنا في بيروت، لربّما كان سهّل وصولها إلى حلفائه، أو على الأقلّ وضع يده عليها لمنع بيعها لأعدائه. لكن، مع الأسف، لم يكن الأمين العام للحزب يعلم بوجود نيترات الأمونيوم على بُعد مسافة صغيرة من مقرّه. لا بل إنّ الأمين العام حين ظهر على الشاشة ليهدّد بنيامين نتنياهو بقصف نيترات الأمونيوم في مرفأ حيفا، لم يكن يعلم أنّ أطناناً من المادّة نفسها موجودةٌ في مرفأ بيروت، وقد يحلو لنتنياهو أن يردّ بالمثل.
لم أدرس الكيمياء. لكن، بعد 15 عاماً على النصر الإلهي و9 أعوام على الثورة السوريّة، لا يحتاج المرء لمعادلات كيميائية حتّى يعرف أنّ لا حاجة بعد الآن لاختراع الروايات. كلّ الضحايا الذين سقطوا لا يستحقّون كذبةً صغيرة تُنفَق خمس دقائق لاختراعها. تكفي الضحايا عبارة «لا علم لدينا»، قبل أن يستحقّوا التهنئة والتبريكات كونهم ماتوا هذه المرّة في «جريمة عابرة للمناطق والطوائف».
شاءت الصدف أن يأتي انفجار المرفأ قبل أيّام على نيّة المحكمة الدوليّة النطق بحُكمها في قضية اغتيال رفيق الحريري. لكن، هذه المرّة، لم يخترع أحد «أبو عدس». اتّفق الجميع على أنّ ما أصابنا هو «زلزال»، واحتفى رئيس الجمهوريّة بـ«فكّ الحصار»، ودعتْنا وزيرة الدفاع إلى حسن السلوك والتصرّف كما فعل الفرنسيّون يوم احترقت كاثدرائية نوتردام.
ذات يوم، كزدرت شاحنة بيضاء في شوارع بيروت حاملةً 400 كلغ من المتفجّرات، وقال الجميع وقتها إنّه لم يكن يعلم. أمّا اليوم، فما نعلمه تماماً أنّ الجميع يعلمون بالنيترات، وأنّ بعض هذا النيترات لا بدّ أن يكون قد كزدر هو الآخر داخل مدن عربيّة أخرى، وقتل أبرياء آخرين أخبروهم أنّ زلزالاً اجتاح مدنهم، وأنّ استشهادهم لا بدّ أن يفكّ الحصار.