يوميات بيروت
راجي بطحيش

من أرض الميعاد وإليها: 5 أيام في بيروت

16 تموز 2022

أرض الميعاد

كنت شبه متأكّدًا أنني، وحال هبوطي على تراب لبنان، سأقبّل الأرض وسأُعفر وجهي بهذا التراب وسأنفجر بالبكاء، وبأنني لن أتوقف عن البكاء طيلة فترة إقامتي القصيرة جدًا. لكن شيئًا ما أو أمور متراكمة كانت تقف بيني وبين هذا الترف. 

كانت زيارة لبنان بالنسبة لي حلمًا أو طورًا من الجنون، أقرب إلى سيناريو لفيلم خيال علمي أو ديستوبيا. فلبنان، وتحديدًا بيروت، بمثابة الوطن المتخيّل والذي بتّ أعتقد بأنني لن أحظى باكتشافه قبل مماتي، وخاصة بعد انهيارات وأزمات السنوات الأخيرة. فقد كان يبعدني كل حدث لبناني وكل كارثة في بلاد الشام المنكوبة بجدارة عن احتمال الزيارة، أو مجرّد طرح هكذا احتمال. 

فمثل كل فلسطيني يعيش في الشمال، يشكّل لبنان جزءًا من هويته وعنصرًا أساسيًا في تشكيل وجدانه الموسيقي والشعري والغذائي والاستعاري، أو فلنقل الحضاري بشكل عام. وما يكثّف من هذه الصلة أن عائلة والدي تنحدر من بلدة إهدن اللبنانية الشمالية، وتحديدًا من عائلة يمين، حيث هاجرت إلى فلسطين قبل مئات الأعوام مع استقدام بابا الفاتيكان لمسيحيين من لبنان إلى فلسطين، «أرض الميعاد»، وذلك لتكوين رعية لاتين تكون تابعة مباشرة للبابا وتزيد من نفوذه في الأرض المقدسة في مواجهة الكنائس الشرقية. كما جاء في البيت الشعري للشاعر الراحل نديم بطحيش:

من إهدن جئنا وها نحن ثرى   في أرض ميعاد تخذنا موطنا 
كنا (بيمين) نلقب سابقًا     واليوم (بطحيش) غدت أسما لنا 

هكذا تحوّلنا من الطائفة المارونية إلى اللاتين، ومن لبنانيين إلى فلسطينيين، ومن يمين إلى بطحيش، وتحديدًا مستوطنين من نوع خاص في «أرض الميعاد».

صورة من أرشيف الكاتب.

أهلا بهالطلة

أثناء التجهّز لتقبيل الأرض وتعفير الوجه والشعر بالتراب الذي يخلو منه المطار، تبدأ التجربة الما بعد حداثية بالتجلّي، حيث تظهر من بعيد لافتة كُتبت عليها الجملة الغنائية الشعبية الشهيرة أهلا بهالطلة، حيث ستبدأ رحلة القطع بين النَص والحقيقة أو بين الإشارة والمُشار إليه، حيث تنتصب اللافتة تحديدًا بعد خط ختم الجوازات لتقول لك أن كل ما ستمر به من عذابات هو في سبيل بلوغ ذلك المعنى. 

فكل مسعى له ثمن وهكذا يقف مئات القادمون، وأغلبهم من اللبنانيين المغتربين، والسوريين المشرّدين الذين قطعوا ساعات طويلة من السفر والانتظار في مطارات العالم، وأنا الذي سافرت لأقل من ساعة سبقتها تعقيدات لا مجال لذكرها هنا، في قاعة وصول وانتظار تسمع فيه صوت تكييف ولكنه ببساطة شديدة لا يعمل. تتدفّق قطرات العرق على جبهات المنتظرين وتتحوّل إلى شلالات تدخل في العيون وتشوّه الكتابة على اللافتة الموعودة في «أرض الميعاد» المتخيلة، والتي ستصبح بعد خطوات حقيقة وحتى إن لم تصل الحقائب مثلًا.

سأقبّل اللافتة وسأنهار عند حوافها عند بلوغها، بشرط أن ينهي موظّفو الجوازات عملهم بسرعة منطقية. فهم يسترسلون في الأسئلة لكل وافد ثم يقومون ويباشرون المزاح مع زملائهم ثم يذهبون، يعودون، يختفون، يتناقص عددهم، ومن بقي منهم ينظر إلى الوافدين بريبة ممزوجة بالتحفظ وكأنهم يقولون لك الله لا كان جاب هالطلة. أخيرًا أصل إلى اللافتة ولا أقبّلها. أنسى وجودها. أهرول إلى حقيبتي وبيروت المعتمة ليلًا.


كمنشأة ما بعد حداثية

في بيروت، وبسبب الشَبَه المنطقي مع «البلاد»، نسيت في أحيان كثيرة أين أتواجد. نفس النسيج العمراني، نفس المباني العثمانية مثل عكا وحيفا والناصرة، فوضى البناء والإضافات البشعة التي تميّز بلاد الشام، نفس الرائحة. نفس رائحة البحر، نفس الحرّ، نفس البحر، ولكن ليست نفس الرطوبة. إنّها رطوبة من لا يعتبر التكييف فيها أمر بديهي.

تكشف بيروت حقيقتها أمامك دون خجل، ودون اعتذار. إنها «باستيش» ما بعد حداثي، من القطع غير المتواصلة والتي زارها التاريخ ليس من مدة ووضع عليها لمسته العنيفة في الغالب. في «البلاد»، يعرف الاحتلال كيف يعالج نزيف الذاكرة. فيجمع الأنقاض والبيوت المهجورة في منطقة مغلقة، عادة ما تتحوّل لقرى فنّانين «يساريين». في بيروت يلفظ التاريخ أحشاءه بفظاظة تحت شمس لا ترحم أو عتمة طرقات تحجب عنك رفاهية التأثّر أو سؤال نفسك أنا في بيروت الآن... فماذا أفعل؟ يصبح همك أن لا تُدهس في الشوارع المؤدية إلى أسواق بيروت المهجورة مجددًا، بفعل لمسات التاريخ الجديدة وبفعل أن أحدهم أخطأ في مكونات خلطة محاكاة أسواق ما قبل الحرب الأهلية. فجاءت النتيجة مباني كرتونية أسوأ من محاكاة لاس فيغاس للأماكن. ففي لاس فيغاس أنت تعرف أن المبنى هو محاكاة متّفق عليها لأصل ما، وذلك مع أن النسخة تكتسب مكانة مستقلة ومنزوعة عن الأصل. لكن في أسواق بيروت، تنتفي العلاقة المتّفق عليها لتحلّ محلها مجرّد ممرّات باردة بلا روح. 

خارج الأسواق وفي كولاج بيروت المعماري، تلمس اليأس الجماعي في كل مكان، تسترق السمع إلى أحاديث عابرة، أناس يتبادلون يأسهم، رجال يجلسون عند حفاف الأماكن يحدّقون في الأرض أو في شاشات الهاتف، يدخنون بشراهة. فالدولة رفعت أسعار كل شيء سوى التبغ (علبة السجائر بدولار). بجوار الأبراج الأنيقة والمباني الزجاجية تقف بنايات مثقوبة، ثقوب بأقطار مختلفة. فإلى جانب مبنى «الهوليداي إن» الشهير، تقف مبانٍ من ثلاثة أدوار، بديعة التصميم، مهجورة أو نصف متداعية، تمامًا كالمدينة نفسها، منهكة ومتعبة، طبقات وطبقات من الدمار تعشعش فيها. وقرب كل مبنى تسأل نفسك ما مصدر الدمار لهذا المبنى؟ الحرب الأهلية؟ اجتياح 82؟ الجولات المتشابكة من الحرب الأهلية؟ قصف إسرائيلي؟ حرب تموز 2006؟ انفجار المرفأ؟ حروب صغيرة أخرى؟


من أين أنت؟

أعتقد أنني أسافر كثيرًا. زرت عددًا لا بأس به من البلدان والعواصم. وفي كل مكان، يسألونني من أين أنت؟ حتى في فلسطين نفسها وفي أقرب الأماكن المتخيّلة، يسألونني من أين أنت؟ أو يتحدثون إليّ بلغة غير العربية، أنت لا تشبهنا، تتحدث بلهجة غريبة، هل عشت طويلًا في الخارج؟ شيء ما بك يختلف عن الناس هنا. في عمّان يتعاملون معي بديهيًا على أنني لبناني. في بيروت، ولأول مرة في حياتي، وخلال خمسة أيام، لم يسألني أحد من أين أنا.

لم أبكِ خلال خمسة أيام دموعًا حقيقية. فقد حجب العرق الغزير الناتج عن الرطوبة الشديدة كل سائل آخر. لكن في آخر يوم، في مطعم أرمني في حي بدارو، وأنا أتناول باذنجان محشي بقصيدة حب، وفيروز تغني «راجعين يا هوى»، شعرت أنّ روحي تنزف ألمًا وفرحًا.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية