تحليل مصر
أحمد عبد الحليم

أشباه المشاهير في مصر... كيف يمحو الاستبداد ذوات المواطنين؟ 

26 أيار 2024

عند تصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض قنوات التلفزيون المصرية، ستجد محتوى عنوانه «شبيه الفنان» أو «شبيه لاعب الكرة»، ضمن جمل أُخرى تتناسب مع سياقات مهنة هذا الشبيه. يحاول هذا المحتوى تقديم حديث أو أداء مقلّد مع هؤلاء الأشباه. هذه الملامح المتشابهة ليست صناعة السنوات الأخيرة الماضية، فسمة التشابه بين البشر، بما فيهم المشاهير، هي أزلية منذ القدم. لكن لم يكن أحد يأخذها في الحسبان. فحتى لو تشابهت الملامح، تبقى الذوات مختلفة. لكن الآن، في حياتنا الرقمية المعاصرة، حين تتشابه الملامح، تتشابه الذوات، أو بمعنى أدق، تمحى هذه الذوات غير المشهورة، وتنصهر في شبيهتِها الشهيرة. 


الملامح كمهنة

في ظل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها مصر، وفي غياب أي حلول جدّية من قبل الحكومات المتعاقبة، ولا سيما مع حكم نظام عبد الفتاح السيسي السلطوي منذ عام 2014، شكّلت التقنية، عبر تطبيقاتها المُختلفة، سبيلا لانتشال كثيرين من الفقر، من خلال وجودهم على تلك التطبيقات وتقديم محتوىً ما، حتى لو كان محتوىً يسخر الناس منه. فالوجود على شبكات التواصل الاجتماعي يجلب الأموال عبر المشاهدات الكثيرة، وكذلك تعاقد الشركات لعرض إعلاناتها على حساب مقدّم هذا المحتوى، وهذا ما شجع الناس على عرض يومياتهم الحياتية «العارية»، من أعمال طبخ وأحاديث شخصية وممارسات بيتية، مثلما كان يفعل الثنائي أحمد وزينب وغيرهما.  

يدلّ عرض تلك الحيوات العارية من أجل الحصول على المال، حسب الفيلسوف الكندي آلان دونو، في تشريحه للتفاهة ونظامها، على انتهاء واضمحلال عصر الحرفة، ليحلّ مكانه عصر المهنة. إذ يقول دونو: فُقِدت الحرفة، يمكن للناس إنتاج الوجبات على خطوط الإنتاج من دون أن تكون لهم معرفة بالطبخ في البيت، إعطاء تعليمات على الهاتف للعملاء رغم أنهم هم أنفسهم لا يفهمونها، بيع كتب أو صحف هم أصلا لا يقرأونها، إن الفخر بالعمل المُنتَج جيداً صار أمراً في طور الاضمحلال آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبدالعزيز الهاجري، دار سؤال، بيروت، ط. 1، 2020، ص. 42.. إنتهى عصر التخصص، وبات لأي إنسان أن يقدم أي عمل أو محتوى، دون احترافه، أو أن يكون هذا المحتوى، من الأساس محتوى.

من هنا، ومع نشأة ظاهرة أشباه المشاهير على مواقع التواصل، أصبحت الملامح نفسها مهنة، تقدَّم للجمهور للفرجة والسخرية عليها. هنا مقدّم المحتوى يقدّم ملامحه وكأنها عمل، أو مهنة ما، في سوق المهن الرقمية الحالية.


التشابه ومحو الذات

كانت البداية عند شبيه لاعب الكرة المصري محمد صلاح، مع المهندس المصري أحمد بهاء. محمد صلاح تحديدا، خرج له أكثر من شبيه، منهم من أظهرته وسائل الإعلام والصحافة مرة واحدة. من بين أشباهه، كان كريم عادل، وهو الذي استمرّ في تقمص شخصية صلاح، وبدأ في صناعة الفيديوهات، مقلّدًا شخصية صلاح الحقيقية، كنوع من صناعة المحتوى الكوميدي. استُضيف عبر شاشات برامج الترفيه والمُجتمع المصرية، كما أجريت الحوارات معه من خلال الصفحات الإخبارية على مواقع التواصل الاجتماعي. 

لم يقتصر، أو ينحصر، محتوى «الشبيه» عند كريم عادل فحسب، بل امتدّ ليشمل كثيرين. فوُجِد، مع الوقت، أشباه الكثير من الفنانين ولاعبي كرة القدم، أمثال عبلة كامل وأمير كرارة وأحمد زكي وعبد الحليم حافظ وشكري سرحان ومحمد منير وعمرو دياب ومحمد رمضان وليونيل ميسي وفان دايك وامبابي وأليسون وغيرهم الكثير. بدأ كل واحد منهم، أي من الأشباه، بتأسيس صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، تحت اسم «شبيه»، وبدأت عروضهم على المرأى العام، تنحصر في ممارسات الشبيه «الأصل». فشبيه لاعب الكرة يخرج وهو يلعب الكرة، وشبيه المغني يستضاف لمحاولة الغناء مثله وشبيه الممثل يؤدي مشهدًا فني لذات الممثل. 

هذه الممارسات التي تغذيها مفاهيم الحياة المعاصرة كالظهور والفردنة والتسلّع وسيولة الهُويات وغير ذلك من مفاهيم، ساعدت في محو هذه الذوات. فلم تعد هذه الذوات تنشأ وفقا لبيئة طبيعية، كما كانت في السابق، ولم تعُد تحاول البحث عمّا يرضيها، ما تطمح إليه، حسب هُويتها الحياتية وأفكارها الأيديولوجية، في المظهر والعمل والطموح. ذابت واندمجت، في ما وضعته المفاهيم الحياتية الحالية، التي تُشكّلها قوانين النيوليبرالية، وانصَهرت ذواتهم تماما. فلم تعد ذوات مستقلة، بل ذوات شبيهة لذوات أصيلة. 

في وقت ما قبل انتشار الرقمنة، كانت الملامح متشابهة، لكن الهُويات مستقلة والحِرف مختلفة. فنان يشبه نجاراً أو عامل نظافة أو مهندساً. طوّعت أدوات الحياة المعاصرة هذا التشابه لتصبح الملامح بمثابة أداة جعلت من أصحابها مسوخاً لملامح أُخرى. تمايزها أنها مشهورة فحسب، ما دلَّ على التيه الهُوياتي والفراغ الجوانيّ لدى هؤلاء الأشباه، حسب وصف أستاذ الاجتماع الفرنسي جيل ليبتوفيسكي، أي أن ذواتهم مُفرغة من الهُوية المستقلة التي، من المفترض، أن يحققها كل شخص حسب ما يتناسب معه من أفكار ثقافية واجتماعية ومهنية وغير ذلك. 

هؤلاء «الأشباه» الذين نشأ العديد منهم وسط اللامركزيات كذوات وأولاد ذوات غير مرئية، وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لنيل الاعتراف من الآخر، أو كما يسمّيها الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث الصراع من أجل الاعتراف. فلم يجد هؤلاء الأشباه سوى ملامحهم لتقديمها كمحتوى للمرأى العام. من هنا تناقضت الغاية، إذ هم، أو حتى بعضهم، يحاول نيل الاعتراف بوجوده، لكن هذا الوجود هو وجود شبيه لذات أُخرى، فحتى الاعتراف هنا لا يأتي للشخص كذات فردية، بل يأتي على أساس أن هذه الذات هي شبيهة، ممسوخة لذات اُخرى، وليست ذاتاً حقيقية مستقلة، بل هي ذات يضحك عليها الناس، دون حتى أن يعرفوا اسمها. هنا، الأنا أي الذات، حسب مقولة ليبتوفيسكي، أصبحت مَصقولة ومُفرغة من هويتها، هذه المرة، في تناقض مع الانشغال الهائل بها. عصر الفراغ، الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، جيل ليبتوفيسكي، ترجمة حافظ إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ط. 1، 2018، ص. 60.


الاستبداد ومحو الذوات

هذا السعي نحو تحصيل الأموال وفراغ الهُوية والبحث عن الاعتراف لدى الكثيرين ما هو إلّا نتاج نظم سلطوية استبدادية إقفارية تمارس شتى أنواع القمع بحق مواطنيها. فتجعل منهم مسوخاً، أشباهاً لآخرين في الفن وكرة القدم، مسموح لهم تقمّص شخصياتهم وحرفهم لتسلية الجمهور، طالما أنّ هذه التسلية لا تتضرر منها السُلطوية. 

لكن على سبيل المثال «المُتخيّل»، لم نجد حتى الآن «شبيهاً» سياسياً أو حقوقياً أو مثقفاً مصرياً معارضاً للاستبداد، تاريخيا أو معاصرا، يظهر ليتقمَّص شخصية هذا المعارض أو أفكاره أو مواقِفه أو يحث الناس على انتقاد النظام السياسي وممارساته. فحتى تقليد الأشباه هنا محصور ومُقتصر في فضاءات كرة القدم والفن فحسب، لا السياسة. فالسياسة ممنوع تقمّصها حتى في محتوى الأشباه، ولو على سبيل الكوميديا التراجيدية. 

منذ بضعة أسابيع، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو للمُوسيقار الهندي أبهيجيت بهاتاشاريا، وهو ضمن لجنة تحكيم مسابقات الغناء، على أنّه شبيه الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك. خرج الموسيقار بعدها وهو سعيد بتداول صورته وحديثه من قبل الشعب المصري، متمنيا أن يسافر إلى مصر ويغني باللغة العربية. ومن بعد تصريحاته حول نيته السفر إلى مصر، انتشرت مرة اُخرى ميمز وكوميكس تعلق قائلة أن الجهات الأمنية في مصر ستمنع دخول الموسيقار إن جاء مصر، بما أنّه شبيه الرئيس السابق الذي كانت سياساته أفضل بكثير من سياسات الرئيس الحالي، في دلالة على أن الكوميديا أو محتوى الأشباه هو للترفيه والسخرية وليس للسياسة. 


التشجيع نحو فقدان الاستقلالية

قمع السُّلطوية الحالية للأحزاب والنقابات والجماعات والحركات، من مختلف التوجهات الفكرية والتنظيمية، كما الاستيلاء على مساحات الفنون والثقافة والتعليم، من خلال تدجينها بسردية السُلطوية، وسجن وترهيب وتخوين كل من يخرج عن هذه السردية، أنتج حالة من الجمود. هذا الجمود ليس سياسيًا فحسب، بل امتد إلى مساحات الهوية للذوات والجماعات. هذا ما رسَّخ لديها مفهوم الاستغناء عن السعي لوجود أفكار وهُويات مستقلة لها، بما أن هذا السعي، ربما، يُعرّض هؤلاء إلى القمع بكافة أشكاله المختلفة، ما جعلهم يُفضلون الاكتفاء بالعيش اللاهوياتي، والاستسلام والانجرار نحو تعليمات السوق الرقمي الحالية التي، بدورها، تشجع عبر إغراءاتها المتعددة إلى التحوّل إلى مسوخ تعيش بلا استقلال ذاتي. 

مع الوقت، يعتاد هؤلاء «الأشباه» غير المرئيين على وجودهم بلا كينونة مستقلة، ما دام كسب الأموال وتحصيلها متوفّراً، وقد رفعت الدولة يدها عن دورها في إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية التي تتسبب نظمها القمعية فيها. فالمجتمع الجيد، وكما يصفه الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث، هو المجتمع الذي يسمح لأفراده، من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم، كما أنه الذي يسمح لأفراده بتحقيق أحلامهم بدون المرور بتجربة الاحتقار أو الإقصاء، لا المُجتمع الذي يُجبر المواطنين على إنتاج مزيد من التفاهة بهدف الانتشال من الإقصاء والاحتقار والتهميش. نور الدين علوش، حوار مع الفيلسوف الألماني أكسل هونيث، الصراع مع القيم العالمية مغامرة ناقصة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، حوارات، نشر في 11 يناير، 2020. 

هذا ما تريده النظم السُلطوية من مواطنيها، أن يصبحوا مسوخاً كوميدية، لا تفكر سوى في التفاهة، مبتعدين تماما، عن الفكر والسياسة ومُفرداتهما النظرية والعملية. تساعد السُّلطوية، بشكل غير مباشر، وبأدوات ناعمة غير قمعية، المنظومة النيوليبرالية وتمثلاتها في التقنية والسوق. وسرعان ما ينجرّ البعض سواء مجبرين أو مستسلمين أو غير مُدركين للمفاهيم والممارسات التي جعلت منهم، عروضا مرئية بلا محتوى حقيقي، مسوخا إنسانية بلا ذوات مستقلة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إسرائيل ترتكب مجزرةً في منطقة البسطا
62 شهيداً في عدوان الخميس 21 تشرين الثاني 2024
غارة إسرائيلية تقتل علي علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في دورس
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 22/11/2024
3,645 شهيداً، 15,355 جريحاً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان