في 21 آب 2013، قصف جيش بشار الأسد المدنيّين بصواريخ محمّلة بغاز السارين، بطريقةٍ تعمّدت قتل أكبر عدد ممكن من السوريّين وهم نيام. يومها، خنق جيش الأسد 1,144 شخصاً حتّى الموت، وترك وراء صواريخه 5,935 جريحاً. أمام هذا كلّه، هل من المقنع فعلاً أن نكتفي برمزيّة مشهد إحياء هذه الذكرى؟
أحيت سوريا ذكرى مجزرة الكيماوي في الغوطتين الشرقيّة والغربيّة في ريف دمشق للمرّة الأولى، علناً ومن داخل سوريا، ومن دون بشار الأسد. تريدنا الدولة الجديدة أن نعتبر ذلك إنجازاً بحدّ ذاته، وهو كذلك. لكنَّ هذه الرمزيّة لم تعد كافيةً بعد 9 أشهر على سقوط الأسد. لم تعد هذه المشاهد التي نخترعها لأنفسنا وتخترعها لنا الدولة كي نحتفل بها ونسكت، كافية في الوقت الذي لا تزال فيه العدالة مغيّبة، بل باتت شعاراً فارغاً في ظلّ المجازر القديمة والجديدة.
المشهد الأوّل
أُقيمت في زملكا ومعضمية الشام بريف دمشق «فعاليّات» لإحياء ذكرى المجزرة، بحضور عدد من الوزراء ومحافظي دمشق وريفها وممثلين عن الدولة السوريّة. توسّطت الفعاليّة خشبة مسرح، أعاد أطفالٌ عليها تمثيل المجزرة. زُيّنت الخشبة ببالونات صفراء مع صورٍ للضحايا كأنّه معرض، ولبس المنظّمون زيّ الدفاع المدنيّ الأبيض، وانتشرت الأضواء والكراسي ليجلس عليها المشاركون. لم أكن لأستغرب حقاً لو حضر مطربون ثوريون إلى الفعاليّة للغناء والمشاركة بها أيضاً.
المشهد الثاني
في مشهدٍ آخر، استقبل الرئيس أحمد الشرع وفداً من الناجين وأهالي الضحايا في قصر الشعب، يوم السبت. ترافقت صور الشرع والضحايا في القصر مع تعهّداته بأنّ تحقيق العدالة حقّ، دون أن يقول لنا من سيعطينا هذا الحق. خلال لقائه بالأهالي، قال الشرع إنَّ جرائم الأسد ستبقى شاهداً على معاناة السوريين، لكنّنا بعد كلّ سنوات القتل والتعذيب والتهجير، لم نعد بحاجة إلى إثباتات على «معاناة السوريّين». نجد أنفسنا مجدداً عالقين برمزيّة أنّنا لم نكن نحلم يوماً بالوصول إلى القصر لنشكو عن تجاربنا مع مجازر الأسد. وهذا لم يعد إنجازاً.
التغطية الإعلاميّة
واكب الإعلام السوري الرسمي هذه الفعاليّات، بعناوين فضفاضة عن انتظار الأهالي للعدالة، دون أي مراجعة جديّة للخطوات التي اتُّخذت وتلك التي لم تُتَّخَذ لتحقيق العدالة. أحاط الإعلام السوري بذكرى إحياء المجزرة وكأنها القصّة كاملةً، وبطريقةٍ تشير إلى وجود استراتيجيّة إعلاميّة احترافيّة مُحكَمة للتغطية. ذكّرتني هذه الإحاطة بتغطية حفل إطلاق الهوية البصريّة الجديدة للدولة السوريّة، وكأنَّ إحياء المجزرة هو حفل إطلاق صكّ نسيان جديد لعهد الأسد من دون التوقّف عنده. كان مشهد إحياء ذكرى مجزرة الكيماوي أبعد ما يكون عن المجزرة نفسها، فهذا الهوس الرسمي بالبصريّات المفرّغة من بعدها السياسي ليس إلّا محاولة لتمييع أي محاولات لانتزاع العدالة والتعويض وجبر الضرر.
قد يكون هذا الإحياء المشهدي للمجازر جزءاً من العزاء الذي يبحث عنه الناجون وأهالي الضحايا، لكنّ تصويره على أنّه الجزء الأكبر من استرداد الحقّ يصبّ في محاولات طمس العدالة. ألم يكن مجدياً مثلاً لو قدّمت وزارة العدل وهيئة العدالة الانتقالية استراتيجيّة واضحة لجبر ضرر الأهالي ولوائح بأسماء أبرز المنفّذين لمجازر الكيماوي والجهود المزعومة لمحاسبتهم؟
بدأت كلّ ذكرى نحييها منذ سقوط نظام الأسد تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مناسبات أشبه بالاحتفالات، لإقناعنا بأنَّ الماضي قد ولّى وأنَّ الحاضر والمستقبل هو مزدهرٌ لا محالة. منذ تنصيبها، تنشغل السلطة السوريّة الجديدة بالرمزيّات والمشاهد، فتختزل أيّ محاولات جديّة لانتزاع العدالة بشعارات النصر والامتنان الأبدي للحظة إسقاط الأسد. عليكم فقط أن تحتفلوا مدى حياتكم بسقوط الأسد، وألا تنسوا للحظة أنَّ تحريركم منه هو معجزة يتوجّب الشكر عليها.
عندما سُئلت الدولة عن المحاسبة، نشرت مقاطع فيديو لمحاكمات غير علنيّة لبعض رموز الأسد، لا ندري فعلاً كيف ستنتهي. وعندما سُئلت عن تعويم مجرمي الحرب، برّرت ذلك بالسلم الأهلي. وعندما سُئلت عن تخريب السلم الأهلي عبر ارتكاب المجازر الطائفية، برّرت ذلك ببسط سيادة الدولة. إذا أردنا فعلاً أن نراجع كلّ الوعود باسترداد الحقّ، نجد أنّنا لم نستردّ إلا القليل منه. على العكس، أصبح لدينا حقوقٌ إضافيّة ننتظر استردادها، من مجازر الساحل والسويداء، إلى القتل تحت التعذيب والخطف والتعفيش.
بات واضحاً اليوم أنَّ العدالة ليست من أولويّات الدولة المنشغلة بصورتها ورمزيّتها وبمخزونٍ لا ينتهي من التبريرات. قد لا يكون التمسّك بانتزاع العدالة من الدولة الجديدة مجدياً، في ظلّ كلّ هذا التمييع لدم السوريّين، لكنّه مطلبٌ لا يمكن التنازل عنه لأنَّ سقوط الأسد لم يكن حدثاً رمزيّاً. كان حياةً جديدة لعددٍ لا يُحصى من السوريّين، والتمسّك بهذه الحياة يتطلّب الابتعاد عن رمزيّتها، كي لا نعلق بوهم لحظةٍ انتهت. لم يعد يكفينا أن نتمسّك غصباً عنّا بيوفوريا تبخّرت بعد أوّل مجزرة جديدة. ولم يعد يكفينا أن نتمسّك بالمأساة ونحييها كأنّها تاريخ مشرّف. نحن لا يكفينا أن نبكي السوريّين علناً، نحن نريد حقّهم.