على هامش المحاكمة
بعد كسب جوني ديب قضية التشهير التي رفعها ضد زوجته السابقة آمبر هيرد، عَلَتْ أصواتٌ نسويّة تحذّر من تداعيات المحاكمة على قضايا العنف المُمارس على النساء، وما قد تعنيه من إعادة تكريس لثقافة العزلة والصمت التي دأبت الحركات النسوية على كسرها، بصرف النظر عمّا إذا كانت آمبر هيرد صادقة في كل ما أدلت به أم لا. فتلك الأصوات النسوية تعي جدّاً سهولة التحامل على الناجيات والقضية النسوية برمّتها في كل مرّة تخسر امرأة معركةً ما، كما تدرك سهولة خسارة مكتسبات لا تزال هشّة انتزعتها بصعوبة خلال السنوات القليلة الماضية.
على هامش المحاكمة، سارع بعضُ الإعلام إلى إعلان موت حركة #أنا_أيضاً التي كان لها الفضل في تشجيع آمبر هيرد على مشاركة قصّتها في مقال البوح الأول في «واشنطن بوست». وردّ بعضه الآخر بتسمية ما جرى بحفلة «أورجي ميزوجينية» موصوفة. أمّا الواقع، فيبقى أعقد من كونه «أورجي ميزوجينية» كما جاء، وعلى وجه حق، في الصحافة البريطانية التي أنصفت الكثير من تغطياتها آمبر، وهو أعمق من اعتباره مقدّمةً لمرحلة جديدة ستُعرف بـ«ما بعد الـ#أنا_أيضاً»، كما أوحت صحافة الولايات المتّحدة الأميركية التي أنصفت جوني.
«ديب-هيرد» و«رو-ويد»
وكأنما يراد لنا بهذه المحاكمة الاستعداد لحقبة حديثة التشكّل، حاربَها بريطانيون عبر دفاعهم عن سردية الناجية والإنجاز النسوي، وأسّس لها أميركيون عن طريق ما يتقنونه خير إتقان، وهو التصميم الترفيهي المُحكَم لأكبر محاكمة تشهير علنية حصد فيها رجلٌ واحد تعاطف الملايين، استهلكها الجمهور كما يستهلك الـSuper Bowl، وذلك بالتوازي مع «حفلة» وطنية أخرى لإلغاء قرار «رو-ويد». و«رو-ويد» حكمٌ كانت أرست فيه المحكمة العليا عام 1973 قاعدة قانونية مفادها أن الإجهاض مسألة خاصة بالنساء، لا بالكيان الحكومي الفيدرالي. وبذلك، تكون قضية «ديب-هيرد» غطّت على قضية «رو-ويد»، ريثما يجهّز الجسم القضائي صيغة الإخراج النهائي للقرار المتوقّع صدوره قريباً جداً لسلب النساء حقهنّ في الاختيار على مستوى الولايات. ويا لهذه الصدفة أن تلتقي محاكمتا «ديب-هيرد» و«رو-ويد» لتُحاسبا النساء على إنجازاتهن في الشهر نفسه، حزيران 2022.
كأنما بهذه المحاكمات يُراد لأولادنا أيضاً أن يُعرّفوا لاحقاً عمّا يجري اليوم بالمحطّة التي أطلقت «مرحلة ما بعد الـ#أنا_أيضاً» معطوفة على «ما بعد النسوية»، وكأن الأمرَين سيّان، انطلاقاً من الولايات المتّحدة الأميركية نفسها، لتكون الأخيرة مهد الـ«مي تو» ولحدها. على أساس أن النسوية يمكن ببساطة اختزالها بالـ«مي تو»، لتتحوّل بفعل التحجيم هذا من حركة ثورية عابرة للعصور إلى مجرّد «ترند»، أو في أحسن الأحوال، فصلاً من التاريخ طوتْه محاكمة شهيرة تابعها أهل الأرض، حدَث أن أنقذت رجلاً ناجحاً مظلوماً مثّل رجالاً مكسورين، من خداع امرأةٍ طمّاعة مثّلت نساء ماكرات.
وتلك لعبةٌ غير بريئة نسجتها مخيّلة ذكورية كانت تتحيّن الفرصة لتأديتها، علّها بها تُعيد «إنصاف» رجال وسرديات أبويّة كانت تُجابَه بشراسة في مجتمعٍ لم يستطع هضم التغيير تماماً، وتُحيي في الوقت نفسه مساعي تجريم الإجهاض والقضاء عليه كحقّ يخصّ النساء فقط. وها هم حلفاء وحليفات هذا التوجّه يستنهضون اليوم هِممَهم لافتتاح فصلٍ جديد يحاولون فيه إعادة الاعتبار لما فقدوه أو كادوا يفقدونه، انتقاماً ممّا افتُعل بحقهم ولا يزال.
إيتيكيت جديدة لتصديق الناجيات
والمفارقة اليوم هي في التفهّم التلقائي لحقّ الأبويّة في أن تنتقم. في أن تستخدم دعاوى التشهير كأحد أسلحتها المفضّلة مقابل سلاح البَوْح النسائي، وفي نهي النساء عن التفكير حتّى بالانتقام، أو عن ارتكاب الأخطاء البشرية بالمطلق، خوفاً من أن تؤدّي تلك الأخطاء إلى سحب الشرعية من حراك بأكمله. حتّى أنه صار ممنوعاً على أولئك الذين لم يتعاطفوا مع آمبر بالضرورة، أو رفضوا تنصيبها لذاتها كأيقونة للناجيات، أن ينتقدوا الذكورية التي اتّسمت بها ردود الفعل ضدها، وأن يرفضوا النظر إلى جوني كضحية، ذلك أنّ تلقّيه الإساءة لا يلغي أنه كان مُسيئاً وعنيفاً أيضاً، باعتراف المحاكم البريطانية والأميركية نفسها.
صحيحٌ أنّ جوني لم يُعنّف جميع النساء في حياته. وحين نقول «صحيح»، يعني ذلك أننا صدّقنا شريكاتِه السابقات حين قلن إنه لم يكن عنيفاً معهنّ. فهل يترتّب على تصديق المحظيات تكذيبُ الناجيات؟ وهل على كلّ معنّفٍ تقديم صكّ تعنيف تُوقّعه كل حبيبات الماضي، كشرطٍ مسبق للتثبّت من أنه عنّف حبيبة الحاضر؟
بمعنى آخر، هل من «إيتيكيت» جديدة تُصاغ اليوم لتصديق المعرّضات للعنف والإيمان بثمار الحركة النسوية، ومن ضمنها الـ#أنا_أيضاً التي تتحدّى بجوهرها ثقافة الصمت وتبجيل القوي؟ وما هي مكوّنات «الإيتيكيت» بالتحديد؟
المؤكد اليوم هو أننا في مرحلة جديدة من الاشتباك مع هذا المنطق الذكوري الأعوج، ولسنا قريبين البتّة من «مرحلة ما بعد النسوية»: أوّلاً لأن النسوية لا تُختزل بالـ#أنا_أيضاً، وثانياً لأن الأبوية حيّةٌ ترزق، تخوض بين الفينة والأخرى، وكلّما شعرت بتراكم خسائرها، معارك جانبية لاسترداد بعضٍ ممّا فقدته، هي التي يصعب عليها تجاوز الخسارة، صغيرة كانت أم كبيرة؛ لا بل تسجّلها في دفترها الخاص بعمليّات الانتقام الذي يتناقله حماة الدار بالوراثة من جيلٍ إلى جيل. والفصل الذي نعيشه اليوم ما هو إلا بند واحد على الدفتر هذا، ستليه حتماً بنودٌ أخرى في زمن المواجهة الطويل.