«فلسطيني» يطلق النار على «سوريين» أو أزمة الديموغرافيا اللبنانية
في الثالث والعشرين من شهر آب الماضي، ضجّت وسائل الإعلام اللبنانية بخبر عن قيام مدير إحدى المدارس في منطقة البقاع بإطلاق النار على أولاد كانوا يلعبون كرة السلة في ملعب المدرسة بعد انتهاء الدوام. وسرعان ما تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خبراً منقولاً عن إحدى المعلّمات في المدرسة بأنّ المدير برّر لها ما فعله لاعتقاده أنّ الأولاد سوريون، أي أنه مسموح له أن يخاف منهم بسبب جنسيتهم وأن يستعمل سلاحه الحربي ضدّهم أثناء لعبهم. لكن قبل انتشار التسجيل الصوتي للمدير، كان الخبر على موقع صحيفة النهار يشير إلى إطلاق ع.ع. فلسطيني الجنسيّة (..) النار على مجموعة من الأطفال الذين كانوا يلعبون في ملعب المدرسة من دون أخذ إذن مسبق.
لم يكن الخبر عن رجل أطلق النار على أطفال، بل عن جنسيته هو.
ففي السياق اللبناني، لطالما شكّلت جنسية أي متّهم بأي جناية أو جريمة (أو أي أمر يعتبره المجتمع غير مقبول، مهما كان عادياً)، مدخلاً لنقاشات ومداولات حول الأزمة الديموغرافية في البلاد. ففي بلد الطوائف، هناك سباقٌ دائم نحو منصب الطائفة الأكثر عدداً، ليصبح الأجنبي، وتحديداً السوري والفلسطيني، الذي ساقته الحروب إلى لبنان لاجئاً، جزءاً من صراع لا ناقة له فيه ولا جمل. فهاجس الديموغرافيا والخوف من «الغريب الذي يتوالد بكثرة»، ليس جديداً وعمره من عمر تأسيس الجمهورية اللبنانية. الديموغرافيا، أو الخوف منها، هي السبب وراء عدم إجراء أي تعداد سكّاني منذ العام 1932، ليتحوّل تاريخ لبنان الحديث إلى «منحدر ديموغرافي».1 ولم يساعد وصول اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، ولاحقاً بعد النكسة، وأغلبهم بالطبع من المسلمين، في طمأنة اليمين المسيحي في لبنان. وهذا الخوف لم يزول مع انتهاء الحرب الأهلية، لتبقى الديموغرافيا أساساً في الحملات الانتخابية، مثلاً، في الرابطة المارونية.
الإعلام الديموغرافي
الأزمة الديموغرافية وتجلّياتها تظهر بوضوح في كيفية تعاطي الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع أي حدثٍ مرتبطٍ بمن هو غير لبناني. فأتت حادثة إطلاق النار بعد أيامٍ على انتشار منشور على تويتر، تم تناقله بكثرة، ادّعت فيه صاحبته أنّها شهدت على قيام منظمة اليونيسيف بدفع مبلغ 400 دولار بدل ولادات للسوريين. الحساب الذي يرّوج للدعاية السياسية العونية (واسمه «تيار عون») يزخر بمنشوراتٍ مماثلة تحذّر من تزايد أعداد السوريين وارتفاع نسبة الولادات بين اللاجئين. ورغم قيام العديد من الناشطين بتصحيح الخبر، بقي المنشور وتم تداوله بشكلٍ واسع بين مؤيّدي التيار الوطني الحر، محذّرين من أنَّ عدد السوريين سيتخطّى عدد اللبنانيين قريباً إن لم يتم وضع حد لوجودهم في لبنان.
قبل ذلك، في العام 2017، طالعتنا جريدة الديار بمقالٍ عنوانه 300 ألف سورية حامل سيلدْنَ بلبنان سنة 2017. نقل هذا المقال الخبر عن المجلس الدنماركي للاجئين الذي تناول موضوع مواليد اللاجئين السوريين حول العالم في البلدان التي لجؤوا إليها، لتدّعي الصحيفة أنَّ هذه الولادات ستحصل في لبنان، ما تسبب بذعرٍ ديموغرافي، من دون أن تكلّف الصحيفة نفسها بتصحيحه.
الإعلام، الديموغرافيا، الغريب، عناصر العنصرية في حلّتها اللبنانية.
السوري مكان الفلسطيني في سبق الإنجاب
منذ بدء توافد اللاجئين السوريين، عاد الهاجس الديموغرافي إلى الواجهة واستبدل الفلسطينيون بالسوريين، لضرورات المرحلة. أصبح اللبنانيون، ومعدلات الخصوبة المنخفضة بينهم، مهددين بالتفوّق العددي من قبل السوريين الذين يكثرون الإنجاب، ليصبح عددهم أكثر من عدد اللبنانيين، بعدما سرقوا وظائفهم وأكلوا خبزهم واستهلكوا كهربائهم، وفق إعلام الديموغرافيا الذي لم يكفّ عن التحريض على اللاجئين. فموقع التيار الوطني الحر لوحده نشر مثلاً في العام 2015 حوالي خمسين مقالاً، بعد تصريحات رئيسه جبران باسيل حول تسجيل الولادات السورية من قبل مفوضية اللاجئين. حينها اعترض باسيل على التسجيل معتبراً أنّه مقدّمة للتوطين، وكرّرت المواقع التي تدور في فلكه بشكل ببّغائي تصريحاته، متجاهلةً أنّ المفوضية إنما تقوم بذلك لتتمكن من نقل اللاجئين إلى دولٍ ثالثة لاحقاً.
في العام 2016، وبعد نشر نتائج دراسة عن الصحة الإنجابية، عادت نغمة الولادات السورية وعددها، لتصل إلى حد اقتراح الصحافي جوزيف أبو فاضل على شاشة تلفزيون المنار للمنظمات الدولية توزيع حبوب منع الحمل والواقيات الذكرية مع الخبز لأنّ اللاجئين يأتون اثنين ويصبحون سبعة بعد فترة، وفق ما قال. موقع قناة «إم. تي. في.»، من جهته، نشر في الفترة نفسها مقالاً بعنوان «يمارسون الجنس... حيث لا يجرؤ الآخرون!» للتنبيه من الخطر الديموغرافي لأنَّ العائلات (الـ)مكونة من 5 أطفال، وترى الوالدة حاملاً أيضاً. وهذه فقط عيّنة ضمن مجموعة أوسع من المنشورات لا يتّسع لنا الوقت لاستعراضها كلها.
هذا التركيز على الخطر الديموغرافي السوري في السنوات العشر الماضية لم يُنهِ «الخطر» الآخر، الأقدم منه، أي الفلسطيني. بعد نشر نتائج التعداد الذي أجرته الدولة اللبنانية للفلسطينيين في لبنان في العام 2017، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، تصاعدت التحذيرات من التوطين. بيّنت الأرقام الرسمية حينها أنّ عدد الفلسطينيين في لبنان بلغ 174,000، يعيشون داخل وخارج المخيمات. الرقم، وهو أقل بكثير من نصف المليون الذي راج كثيراً في السنوات الأخيرة، سببه ارتفاع نسبة الهجرة، وعدم تسجيل وكالة الأونروا الوفيات. تسبّب نشر نتائج التعداد بموجة مقالات وتصريحات اعتبرت أنّ الرقم المنخفض هو مؤامرة لتوطين من تبقى من الفلسطينيين بذريعة أنَّ عددهم قليل.
مع اقتراب نهاية العام 2022، لبنان هو الدولة الوحيدة العضو في الأمم المتحدة التي لم تنجز أي تعداد لسكانها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يوقف ذلك السياسيين والصحافيين والمواطنين على حد سواء عن إعطاء تخميناتٍ لعدد السكان والتقسيم الديموغرافي، واستخدام ذلك في حملاتهم السياسية. مع عودة نسبة الخصوبة إلى الارتفاع قليلاً فوق مستوى الاستبدال في لبنان (المعدل هو 2، وهو عدد الأولاد الذي يتوجب على كلّ امرأة إنجابه للحفاظ على نسبة السكان نفسها في بلد ما. يقدّر البنك الدولي النسبة بـ2.1 في لبنان عام 2020)، وبما أن السلطة تعتاش على الأرقام في الأمم والمجتمعات على السواء (..) حيث تصبح الديموغرافيا هي العامل المُمَيٍّز/ المُفَرِّق، 2 ستبقى الديموغرافيا مثيرة للجدل في لبنان للعقود المقبلة.
* يرتكز المقال على ورقة بحثية قدّمتها الكاتبة في العام 2018 في الجامعة الأميركية في بيروت.
- Winckler, Onn. Arab Political Demography. Sussex Studies in Demographic Developments and Socioeconomic Policies in the Middle East and North Africa. (Brighton, England; Portland, Or: Sussex Academic Press, 2005), 5.
- Fargues, Philippe. “Demography and Politics in the Arab World.” Population: An English Selection 5 (1993): 19