تحليل ثورة تشرين
خالد صاغيّة

الثورة والآخر

11 كانون الأول 2019

من المدهش حجم الأسئلة التي خرجت إلى العلن منذ بداية الثورة، والتي تدور كلّها حول سؤال واحد: ماذا عن الآخر؟ كأنّ المشاركين في الثورة، والجالسين على ضفافها، يخرجون للتوّ من فقاعاتٍ مغلقة زجّنا النظام داخلها، وارتضيناها ملجأً وحيداً للاستمرار قيد الحياة.

هنا محاولةٌ لإعداد لائحةٍ أوّلية ببعض تلك الأسئلة:

الآخر الحزبي هل هو خصمٌ بالمطلق وجزء من جماعة السلطة أم أنّه من الملتحقين المحتملين بالثورة؟ هل ينبغي الابتعاد عنه والتشكيك به إن وُجد في ساحات التظاهر أم أنّه ممّن ينبغي تشجيعه على الخروج عن بيت الطاعة داخل حزبه، ثمّ التعويل عليه في مرحلة لاحقة نظراً للخبرة في الانتظام والتنظيم؟

الآخر «المدني» هل هو داعم أساسيّ للثورة بسبب الخبرات والقدرات التي يمكنه تقديمها أم أنّه من ينبغي السهر الدائم على تهميشه بسبب انتهازيّته الأصيلة التي ستجعله يخرج عن الثورة في اللحظة المناسبة ليلتحق بالسلطة؟ هل هو عامل مساعد لتمتين وتقوية شعب الثورة أم أنّه الوصفة لضرب أيّ اتّجاه جذريّ للثورة؟

الآخر الممانع هل يمكن أن يكون جزءاً من الثورة وأن يشارك في السخط على الفساد والمحاصصة والسلطة السياسية، ويحتفظ في الوقت نفسه بتقديسه للمقاومة وسيّدها؟ هل ينبغي تحييد هذه «المقدّسات» عن هتافات الثورة ومطالبها أم أنّ الممانعة والثورة «دونتي ميكس»، ولا بدّ لأيّ ثورة أن تكسر المحرّمات أوّلاً، وألا تستثني أحداً من السلطة، خصوصاً الطرف الأقوى عسكرياً وسياسياً؟

الآخر الطبقي هل يُحسب للثورة أم عليها هذا الاختلاط الطبقي الذي يسودها، والذي يترافق أحياناً مع حذر متبادل بين بورجوازيّة وبروليتاريا؟ حذر يصل أحياناً إلى حدود التراشق بالتُّهَم بين «مندسّين» و«متسلّقين». وكيف يمكن للمزيد من التجذير الطبقي للثورة أن يؤثّر على هذا القلق المتبادَل؟

الآخر المركزي ما هي علاقة المركز بالأطراف في هذه الثورة؟ وما هي الطريقة الأفضل لممارسة اللامركزيّة داخلها لناحية تبادل الخبرات وتنسيق أشكال الاحتجاج؟ كيف يجري التضامن بين المراكز المتعدّدة وما المطلوب من تضامن كهذا؟

الآخر المسكون بالحرب الأهلية هو ذاك الذي يدبّ الصوت كلّما رُشِق فندق بحجر، أو كلّما قُطع طريق، أو كلّما ذُكر تحرّك على محور قديم كالرينغ أو الشياح- عين الرمّانه. هل ينبغي دغدغة هواجسه للإثبات بأنّ الحرب الأهلية باتت وراءنا أم ينبغي أخذ تلك الهواجس بالحسبان؟

الآخر الذي بداخلنا أخيراً هو ذاك الآخر الذي ليس آخرَ تماماً. فهو جزءٌ منّا، جزءٌ من جهازنا العصبيّ وقوّتنا الجسديّة، لكنّنا لم نتعرّف إليه قبل الثورة. هو الذي يدعونا للنزول إلى الشارع، وهو الذي يدقّ جرس الإحباط، وهو الذي يمنع عنّا النوم، وهو الذي يجعلنا نتساءل كلّ صباح عن أنفسنا وعمّا نفعله في الثورة وعن الحدود القصوى التي نلامسها.


منذ بداية الثورة، قام كثيرون بزيارة مناطق مختلفة جذبتهم إليها الصور التي نقلتها التلفزيونات. ولطالما سخروا من أنفسهم مطلقين على تلك الزيارات مصطلح «السياحة الثورية». فرغم صغر مساحة البلد، لم يرَ اللبنانيون يوماً طرابلس بالعين التي يرونها بها الآن. لم ينتظر أحد من جلّ الديب أن تشكّل هذا الجسر الذي يربط معنوياً بين العاصمة والثورة شمالَها. لم يفكّر كثيرون بأولئك الذين تحدّوا سلطة نبيه بري في صور.

ولا شكّ أنّ لهذه «السياحة الثورية» طابعها الجغرافي. فهي فرصة حقيقية لاكتشاف البلد وعبور حواجزه الراسخة وغير المرئية. وهي حواجز جغرافية لكنّها أيضاً نفسيّة. فقد تمكّن الطاقم الحاكم من اختزال مناطق بأسرها وإخفائها تحت صورته. تمكّنوا أيضاً من فرض صورةٍ عن البلد وعن ماضيه ومستقبله. ولعلّ من وظائف هذه الثورة أيضاً إخراج البلد من الجُحر الذي أخفوه فيه.

لكنّ «السياحة الثورية» هي أكثر من ذلك. إنّها سياحةٌ في عالم الأسئلة المطروحة أعلاه. وهي أسئلة تتّخذ أحياناً طابعاً متوتّراً لدى القابضين على الإجابات الجاهزة وحقائقها، لكنّها تبدو لي «سياحة» لا بدّ منها في هذه المسيرة الثوريّة الطويلة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت