إلهي،
لينبُتَ دودٌ مكانَ البَلَحْ.
ذهبنا جميعاً إلى الانتخابِ،
ولم ينتَخب أحدٌ مَن نَجَحْ!
— «إلهي»، محمد الصغير أولاد أحمد
فكّرت بمعنى الكلمة للمرّة الأولى، جدّياً، عند قراءة رواية «عرس الزين» للطيّب صالح، حيث تدور الأحداث حول رجلٍ يُدعى الزين وقد نجح في الزواج من حسناء القرية. ويدور الحديث عن «العرس»، ثم تبدأ تنويعات الكلمة بالظهور: «الزين يُريد أن يُعرّس»، أي أن يتزوّج، و«رايحين نعرّسلُه»، أي نبحث له عن عروس، و«قصّة الزين مع التعريس»، أي مع الزواج…
ثم قلتُ إنّ هذه التنويعات على كلمة «عرس» غريبة عن لكنتنا اللبنانيّة، صح، لكنّها ليست بغريبة عن استخدامنا لكلمة «عرص» وتنويعاتها. وقدّرتُ أنّ هذا هو مصدر الكلمة: «العرص» من «العرس». وها نحن اليوم، لبنان 2022، على أبواب أهم الأعراس/الأعراص في تاريخنا المُعاصر: العرس الديمقراطي.
وصف وزير الداخلية بسام مولوي اقتراع المغتربين اليوم بأنه «عرس للبنان»، وقال: «نحن في مهرجان الديمقراطية».
تُجاهد السلطة لتصوير المحطّة الانتخابية على أنّها تعكس ديمقراطية نظام الحكم. وقد طبّعت أكثريّة المُعارضات مع هذا التصوير، للأسف. غير أنّ هذه الانتخابات هي نفي الديمقراطية. نقيضها. هي تشريع الدكتاتوريّات، وهي اعتراف بأنّ السلطة هي من تختار أين وكيف تُشرّع نفسها، لا الشعب، وإن كان العرف الأوّل في السياسة أنّ «الشعب مصدر السلطات».
تفنيد القول بأنّ «انتخابات عام 2022 هي نقيض الديمقراطية» يمرّ بالأسئلة التالية:
الجزء الأوّل
1.
س: هل مركز السلطة داخل المجلس النيابي؟
ج: كلا. لو كان معنا 128 نائباً، وارتأى وفيق صفا أنّ الأمور ستمشي بذاك الشكل، فالأمور ستمشي بذاك الشكل. لو كان معنا 128 نائباً، وارتأى الحاكم وشلّة المُضاربين على العملة أنّ سعر صرف اليوم هو كذا، فإنّ سعر صرف اليوم سيكون كذا.
2.
س: بناءً على السؤال الأوّل، وإن كان هدف العمل السياسي الاستيلاء على السلطة، فهل الانتخابات هي الميدان المناسب للاستيلاء على السلطة؟
3.
س: لنقلب السؤال الثاني قبل الإجابة عليه. هل تستمدّ السلطة شرعيّتها من تمثيلها النيابي؟
ج: كلا، تستمدّ أحزاب السلطة الحالية شرعيّتها أوّلاً وأخيراً من «شبكة العلاقات الزبائنية». ثم تستمدّها من احتكارها التمثيل في المجالس الأقرب للناس: المجالس البلدية، لا النيابيّة. هذا فضلاً عمّن يستمدّ شرعيّته من السلاح، أو التمويل، أو وراثة زعامات الحرب الأهلية.
بناءً على هذه الأسئلة الثلاثة، يصبح منطق خوض الانتخابات لتغيير قراراتٍ ما، أو خوضها من أجل المُعارضة، أو كمُراكمة مُكمِّلة لما سبق، أو للمواجهة بشكلٍ ديمقراطي، أو للتصارع على السلطة عبر العمل البرلماني… يصبح هذا المنطق باطلاً، شيئاً كلعب الفوتبول في ملعب باسكت، أو صَيد العصافير بسنّارة سمك.
الجزء الثاني
4.
س: لمعايير كثيرة (تفجير 4 آب، أو السحل الدائم للطرابلسيّين، أو الإبادة الجماعية لمرضى السرطان، أو سلب أموال الناس)، يمكن القول إنّ السلطة القائمة هي «سلطة احتلال». فهل يُواجَه الاحتلال بالتصويت؟
ج: بمعنى آخر، هناك من يملك سلاحاً، يقول لك: «يلا عمّو تاع واجهني ديمقراطياً». آخرون، بنوا حملتهم بالضدّ من هؤلاء، من دون أي برنامج يُذكر، إنّما بشدّ عصب جماعتهم، وكل مشكلتهم مع سلاح حزب الله هو أنّهم لا يملكون مثله- هؤلاء أيضاً شبّيحة، وهؤلاء أيضاً يقولون لك اليوم: «يلا عمّو تاع واجهني ديمقراطياً». آخرون، يملكون مفاتيح الاقتصاد ومطبعة مصرف لبنان وقد سرقوا جنى عمرك بهدوء، واليوم يقولون لك: «يلا عمّو تاع واجهني ديمقراطياً».
فهل هذه «مواجهة ديمقراطية»؟ هل تتساوى ديمقراطية التصويت بديمقراطيّة المال؟ هل تتساوى بديمقراطية التشبيح؟
5.
س: سؤال المال الانتخابي.
هل طُبّقَ قانون الرقابة وسقوفات الإنفاق الانتخابي؟ هاهاه. هل؟ هل؟؟؟ عَتّم النظام على من يشاء، وعتّمت المُعارضات نفسها على من تشاء، كان المال المصروف هو المعيار. فإن كنتَ تملك برنامجاً بِلا مال، وخضت هذه الانتخابات، مقابل من يملك مالاً بِلا برنامج، فهل هذه مواجهة «ديمقراطية»؟
6.
س: السؤال الأهم، سؤال الاقتراع.
هل يقترع الناخبون بشكلٍ ديمقراطي؟ بحريّة وبِلا قيود؟ ما هي معايير الاقتراع؟ هل يمكن القول إنّ نتيجة الاقتراع في 16 أيّار ستُمثّل الآراء السياسيّة الفعلية؟
ورد التالي في خطاب أمين عام حزب الله في 10 أيّار: بعض المتردّدين، يقول لك المقاومة على رأسنا، سلاح المقاومة على رأسنا، لكن نحن لا نريد أن نصوت لأنه عندنا أزمة معيشية، يعني إذا لم تصوّت للمقاومة ستُحلّ أزمتك المعيشية؟
هذه الجملة كفيلة بأن تجعل هذا المتردّد يصوّت، علماً أنّه لا يُريد.
يقول عدد من أبناء الشياح المنتمين لحركة أمل، أنّهم مقتنعون بفساد نبيه برّي، لكنّهم سيحتاجون لمسؤول الحركة في المنطقة لتأمين تختٍ لوالدتهم في مستشفى الساحل. فهل تؤمّنه لهم المعارضة؟
مسيحيّون كثيرون مقتنعون بفراغ الخطاب الجعجعي، لكنّهم أُقنعوا بالمقابل بالغول الشيعي الذي يريد أن يأكلهم. فهل تصويتهم لجعجع هو لأنّهم مقتنعون به؟
أمثلة كثيرة من يوميّاتنا تبرهن أنّ معايير الانتخاب ليست البرامج وليست العقلانيّة وليست مصلحة الجماهير الطبقية. المعايير هي «وهم المعايير»، «وهم المصلحة»، «وهم الصراع»، «وهم الديمقراطية». معايير الاقتراع تمرّ قبل كل شيء بشبكة العلاقات الزبائنية، التي لم يمسسها أحد بعد من المُعارضين، للأسف. فهل تكون الانتخابات ديمقراطيّة وآلية الاقتراع فيها مُكَبَّلة؟
ثم اكتشفتُ أنّ تأويلي لكلمة «عرص» ليس الأدقّ. فقد تبيّن أنّ الكلمة قد جاءت من السلك العسكري المصري، ولم تكن تحمل أي دلالة سلبية، بل مجرّد تسمية لوظيفة الشرطي. تحديداً الشرطي الذي أُوكلَت له مهمّة مداهمة بيوت الدعارة، أو قل إدارة سوق الدعارة بشكلٍ يناسب الدولة. ثم صار هذا الشرطي يقبض الرُشى من شبكات الدعارة، وصار جزءاً منها.
هي إذاً وظيفة من كان مؤتَمَناً على تطبيق القانون، وصار تدريجياً جزءاً من التسيّب، جزءاً من مخالفة القانون والإيهام بتطبيقه. يعكس صورة الشيء، بالشكل، ويطبّق نقيضه. بهذا المعنى، العرس الديمقراطي هو هو «العرص الديمقراطي».
ابتلعتنا السلطة. وتمكّنت بفضل هذه الانتخابات من «مأسَسة أوجاعنا»، ومن تلطيف الانهيار، ومن تهميش المُهَمَّش وتعويم المُعَوَّم. تمكّنت من تفريغ السياسة، ومن جعل الانتخابات محطّة يختار خلالها المُقيمون شكل الذي سيستغلّهم لأربعة أعوام مقبلة، من دون المساس بمضمون نظام الاستغلال.
تمكّنت السلطة أيضاً من تطويع النماذج المُعارِضة لما يخدم مصلحة بقاء هذه السلطة نفسها. بقيَت قلّة قليلة يُعوّل عليها في هذه الانتخابات. لهذا ولأسبابٍ عديدة، تبقى المُقاطعة بالنسبة لي الخيار الأنسب.
أمّا وقد دخلنا هذه البِركة، أو للدقّة «أُدخلنا» إلى بركة الوحل الانتخابي، بسبب دهاء النظام وغطرسة المُعارضين، فقد يكون من الصواب أيضاً الاقتراع، عَلّنا نحقّق شيئاً من الانتصار الصغير، من دون التوهّم ولو لحظة أنّنا نمارس أي شكل من أشكال الديمقراطيّة.
قد يكون من المفيد أيضاً أن نقترع بالإصبع الأوسط، ندخله في عبوة الحبر الانتخابي ونرفعه عالياً بوجه النظام، بعد أن ندخل أقلام الاقتراع ونحن نردّد ونقول:
آويييها العرس الديموقراطي قرّب
إييييه
آويييها رح نرجع نجرّب المجرّب
إييييه
آويييها وبعدنا منعوّل عالانتخابات
إييييه
آويييها بطّلنا نعرف عقل مين المخرَّب
ويليليليلييييش