ليست المرّة الأولى التي يظهّر فيها استحقاقٌ عمقَ أزمة النظام اللبناني. فلقد صار مألوفاً أن يذكّرنا كل انتخاب رئاسي بعد فراغ، وكل تشكيل حكومي بعد طول انتظار، وكل انتخاب نيابي بعد تردّد، بأنّ التوافقية التي تحكم لبنان نظرياً ترنّحت وأنّ فلسفتها المفترض بها تسهيل الحياة السياسية وضمان مشاركة ممثّلي الطوائف فيها، لم تعد قادرة على إدارة الحياة والمشاركة المذكورتين (بمعزل عن سوء حصر اللبنانيين واللبنانيات بطوائفهم أصلاً).
أكثر من ذلك، بات من الممكن القول إن التوافقية هذه إذ اعتُمدت سابقاً لتفادي أزمات الحكم، باتت منذ عقود في آلياتها القليلة المرونة مولّدة للأزمات وعاجزة عن حلّها.
لذلك أسباب عديدة لها علاقة بخصائص النخب السياسية التي أنتجتها الحرب وتحوّلاتها، ولها علاقة بالأضرار العميقة التي أحدثها النظام السوري بالثقافة السياسية وبشبكات العلاقات والمصالح، ولها علاقة بالطائفية ذاتها كعنصر ناظم ومعرقل في الوقت نفسه لجميع جوانب الحياة العامة، ولها علاقة بالتغيّرات الديموغرافية، ولها علاقة بتحالفات القوى المحلية مع الفرقاء الإقليميّين.
ولها علاقة أيضاً وخصوصاً بصعود حزب الله وقوّته الفائضة. فالقوّة هذه، المستندة الى سلاح ومال وعقيدة ودعم خارجي ومؤسسات داخلية وخطاب مظلومية تاريخية معطوف على انتصارية راهنة، لا تقبل بموجبات التعاقدات التوافقية، ولا تلتزم أصلاً بحدود البلد وسيادته السياسية والأمنية. وهي تستجلب بهذا المعنى ديناميات وعناصر من خارج المألوف «التوافقي» ومشروطيّاته، وبمقدورها تعطيله وإسقاط «الميثاقية» عنه متى تعذّر عليها فرض قواعدها وأولوياتها.
ولعلّ ما برز في الانتخابات النيابية قبل أيام يؤكّد استثنائية الحالة الحزب إلهية هذه، ومعها الحالة الشيعية، في السياقَيْن السياسي والطائفي اللبناني المأزوم.
ذلك أنّ الحزب لم تضعفه مباشرة الانهيارات الاقتصادية والسياسية والانتفاضة الشعبية وتبعات انفجار المرفأ والتردّي الخدماتي وغيرها من الأمور، رغم كونه الطرف الأقوى في الحُكم وصاحب الأكثرية النيابية والقدرة التعطيلية التنفيذية وحليف رئيس الجمهورية. والتمثيل السياسي الشيعي ظلّ بسبب الحزب عصياً على أي تبديل. ففي وقت بات المسيحيون خارج أحادية أو ثنائية التمثيل (يملك الطرفان الأقوى بين قواهما 38 نائباً من أصل 64)، وبينما تراجعت الثنائية الدرزية وظهر وجهان جديدان من أصل 8 (مع بقاء جنبلاط القوة الأولى)، ومع تشظّي التمثيل السنّي وانتهاء القدرة على حصره في زعامة شكّلتها الحريرية طويلاً، لم يبق غير الشيعة محصوري التمثيل بـ27 نائباً جميعهم من مرشّحي حزب الله وحليفه حركة أمل.
وإذا كان الإعلام اللبناني (ومن ضمنه «ميغافون») قد وقع في خطأ احتساب الأصوات التفضيلية واختلافها بين العام 2018 والعام 2022 من دون مقارنتها بتوسّع الديموغرافيا الانتخابية المعنية في الفترة عينها قبل الولوج إلى خلاصات سياسية (في حالة الحزب نتحدّث طبعاً عن الديموغرافيا الشيعية)، فإن الواضح رغم الخطأ هذا أن حزب الله والقوات اللبنانية وحدهما بين القوى الطائفية حافظا على «شعبيّتهما» داخل طائفتيهما. وسبق لكاتب هذه السطور أن زعم مراراً أن الأطراف الوحيدة التي تستفيد من تخفيض سن الاقتراع الى ما ينبغي أن يكون عليه، أي 18 عاماً، هي قوى التغيير إضافة الى حزب الله والقوات. ذلك أن الحزب والقوّات هما صاحبا القابلية بين قوى السلطة أو النظام للاستقطاب في مراحل التوتّر والافتتان بالقوة. وهما يملكان ماكينات سياسية وانتخابية متمرّسة. أما قوى التغيير، فعلى الرغم من تشتّتها وضعف خبراتها وتمايزات الأطراف والأفراد فيها، إلا أن حضورها الجامعي من جهة، وعدم امتثال كثر من الشبّان والشابات لموجبات الزبائنية وتكوّن ثقافتهم على وقع الاعتراض والانهيار وتعاظم الرقاعة والفساد من جهة ثانية، يوفّران لها قدرة توسّعية عالية.
بهذا المعنى، من الأدقّ القول إن حزب الله لم يتقدّم، لكنه حكماً لم يتراجع. فإذا ازدادت كتلته التصويتية التفضيلية بمقدار 54 ألفاً بالمقارنة مع نتائج العام 2018، تراجعت الكتلة التصويتية لحليفه أمل بمقدار 14 ألفاً، في وقت زاد عدد الشيعة المسجّلين على لوائح القيد في الفترة نفسها بمقدار 87 ألفاً. وهذا يعني، إذا ما قورن أيضاً بتراجع طفيف طرأ على معدّلات المشاركة، أن الحزب حافظ على قواعده، في حين تراجعت حركة أمل قليلاً، واتّسع إطار الاعتراض عليهما أو التمنّع عن التصويت لهما قليلاً أيضاً.
في المقابل، إذ زاد عدد أصوات القوات التفضيلي في أربع سنوات 27 ألفاً، ازداد المسيحيون على لوائح القيد 26 الفاً (في وقت تراجع التيار العوني بمقدار 38 ألف صوت وهي نسبة عالية، بما يجلعه أكبر المتراجعين لبنانياً).
وبالعودة الى حزب الله، لا تفيد أي مكابرة في التعامل مع حالته، لا تعظيماً ولا تبخيساً واستبدالاً للواقع بالأمنيات. فقوّته حالت دون اختراقات للوائحه المشتركة مع أمل في المقاعد الشيعية. وليس من المرجّح بسبب الأوضاع اللبنانية العامة، وبسبب التبدّلات التي أحدثها الحزب في البنية الاجتماعية الشيعية الخاصة (مدارس وكشافة ونواد رياضية وهيئات صحية وخدماتية ونسائية وإعلامية ودورات عسكرية، إضافة الى قدرات مادية) أن تتراجع قوّته في المقبل من الأيام. فلا خصوم الحزب من القوى الطائفية الأُخرى قادرون على إضعافه (وبعضهم يتوق للتشبّه به!)، ولا الرهانات على تحوّلات إقليمية جذرية تُضعف إيران فتعزله، هي رهانات في محلّها أو يمكن التعويل بجدّية ومسؤولية عليها.
على أن كلّ هذا لا يعني أن الحزب غير معنيّ بمؤدّيات تراجع حلفائه وتقدّم خصومه أو المستقلّين عنه ضمن شروط النظام (المأزوم) القائمة. فهو لم يعد قادراً اليوم على تشكيل أكثرية، ولا على شرعنة خياراته داخل المؤسسات. وأبرز ما بوسعه فعله هو السعي الى إيجاد تسويات دورية تأخذ بالاعتبار تعذّر قيام أكثريات مستديمة في البرلمان الجديد، أو العودة الى التعطيل والترهيب إن اختلف مع اتجاهات منافسيه ومناوئيه، وبالتالي تعميق الكراهية له أو الخصومة معه لدى غير الشيعة وإنهاك حلفائه أكثر فأكثر. وفي الحالين، سنبقى أمام استمرارٍ لمأزومية النظام ترقيعاً أو تعطيلاً، مع مراوحة سياسية لغياب القدرة على إحداث إصلاحات جدّية، وربما مع بارقة أمل وحيدة (ولَو محدودة): تكريس حضور القوى التغييرية في المشهد السياسي والتحضير للانتخابات البلدية والنقابية والطلابية المقبلة وللضغط والمعارك المطلبية التي سترافق الإجراءات والقرارات المالية والاقتصادية المزمع اتخاذها. وهذا في أي حال شأن آخر.