في متحف توبكابي في اسطنبول، ناموس يقال إنّه يعود لأيدالونيموس، الملك الفينيقي الذي عيّنه اسكندر المقدوني حاكماً لصيدون بعدما طرد الفرس. على الناموس، يظهر رسم منقوش للملك إلى جانب الاسكندر في رحلة صيد. الملك والفاتح جنباً إلى جنب. يستمدّ الملك من الفاتح شرعيّته وقوّته وجبروته. فمن دون الاسكندر، ليس أيدالونيموس سوى زعيم عصابة في بلدٍ هامشيّ وقع سهواً بين صراع حضارات.
لا عجب أنّ كتاب تاريخنا موضع خلاف. فتاريخنا غير مشرّف، تاريخ التهليل للفاتح القادم من بعيد على حساب الخصم القريب. تاريخ قائم على مبدأ الخيانة المشروعة. فلو انتقدنا الملك أيدالونيموس لاستقوائه بالإغريق على خصومه، هبّ أنصاره مدافعين: «طيب شو بدّك يعمل؟ ما فينا ليهن لوحدنا! وهنّي أصلاً تحالفوا ضدنا مع الفرس».
كأنّ الدهر لا يغيّر شيئاً. فالإسكندر قد يكون الخامنئي، الملك السعودي، ماكرون، أردوغان، ترامب، بوتين، الأسد، أو أمير قطر. أمّا الملك، فتعرفونه. واحد منن. لكن، على مرّ العصور، ومع كلّ خيانة، يزداد الكره حقداً، والخوف رعباً، والشكّ ارتياباً، ويرث الأحفاد عن أجدادهم رواياتٍ لا يمحوها الزمن. وبين الحين والآخر، تُفقد السيطرة على الخوف، ويُقتَل الأبرياء. ملايين يموتون على امتداد العصور، ولا يذكر التاريخ اسم واحدٍ منهم. فالتاريخ لا يذكر سوى الخونة.
لم نعد نعرف الفرق بين الخيانة والوطنّية. أصبحنا نسمّيهم الشرفاء. تاريخ متواصل من الخونة الأبطال باسم العشيرة. نبحث بإذلال عن بطولة واحدة نزيّن تاريخنا المشترك بها، فلا نجد. فنكذب، ونتناسى إنّنا نحتاج إلى علاج نفسي جماعي، وأن هذا الحمل الثقيل من الفشل سيرثه الجيل القادم. فلا نخبرهم أنهم أبناء غير شرعيين لمئات آلاف الجيوش. ونخاف من الخيانة القادمة. كلنا خائفون، والشتيمة على رأس اللسان، والسلاح قاب ذراعَيْن، والموت قريب. دائماً قريب.
ما الحلّ إذاً؟ يقول البعض إنّ لا حلّ. فنحن بلد عشائر ضعيف. ولا بدّ أن تسيطر علينا قوة أجنبية، أكانت من الشرق أو الغرب. لا فرق. فترميم الثقة بين أطياف الشعب مستحيل. كيف تقنع أهل الجنوب أنهم لن يواجهوا الاحتلال منفردين؟ كيف نقنع مسيحيّاً أن حقّه محفوظ في نظام مدني، وهو أقليّة في تقلّص دائم؟ كيف تقنع درزيّاً أن يقبل بالانفتاح فيما ذكريات رؤوس أجداده التي قطعها العثمانيون ووالي الشام ترعبه. كيف ننسى الحرب اللبنانية. 7 أيار. الاحتلال الإسرائيلي. قوّات لحد. الإرهاب. كيف ننسى 4 آب.
ولكن أُنظر. «الشعب وعي»! صحيح أن البعض يهلّل للإسكندر ماكرون ويلتصق به كالأيتام في لحظة تخلٍّ. ولكن، بالإجمال، الشارع يهتف «كلّن يعني كلّن». لأول مرّة في التاريخ؟ أهذه أول مرّة؟ لا يمكننا أن نعرف. فالتاريخ يتذكّر أسماء الخونة فقط.
أنظروا إلى المتطوّعين؟ هؤلاء ليسوا خونة. يقدّمون أنفسهم دون أن يسألوا عن الأصل والدين والجَدّ. وانظروا إلى الشابات والشبان والصحافيين والأطباء والممرّضين والمحامين والمصوّرين يقولون «كلّن يعني كلّن» تحت هول القمع والرصاص وعسكر الطغاة. هل سينجحون في كسر سلسلة الخيانات؟ هل سيقنعون شعبهم أن ينضمّ إليهم بكلّ ألوانه؟ هل وصلنا في التاريخ إلى الساعة الصفر؟ هل جاء فعلاً الوقت لبناء وطنٍ عادل؟ سيكون هناك دائماً إسكندر. لا نستطيع السيطرة على العالم. لكنّنا قادرون على السيطرة على النفس. فلنبنِ بلداً يبدأ تاريخه اليوم، على أسس الكرامة للجميع واحترام الإنسان والحياة.
«ولك وين عايشين إنتو؟»، يردّ أحد المشكّكين. التاريخ مليء بشبّان وشيوخ مثلهم، وعاجلاً أم آجلاً سيلتحقون بالهجرة أو الطائفة أو الموت دون أن يذكر أحد أسماءهم. ويعود ليردّد روايات الرعب والشك والجحيم. فماذا نفعل إذاً؟ إذا بقي الخوف من الخيانة القادمة ينتصر عليه؟ نحارب حتى الموت؟ أم نختار الحياة في مكان آخر؟ هنا أو هناك. ما الفرق. فنحن غرباء في الحالتين.
ولكن ما أجمل الحلم، ما أجمله. تخيّلوا لو نبني وطناً بعد كلّ هذه العصور.