الآن أعرف أن في رؤية الشرّ متجسّداً حقيقة، تشبه بمأساويّتها برهات المشاهدة الروحية. حقيقة لا رجعة منها إلى الإنكار، إنكار الهاوية الأخلاقية الجهنمية التي تتحكم بواقعنا. كأننا كنّا موتى فتنبّهنا.
وكأننا لوهلة وقد كُشفت الغشاوة عن عيوننا، رأينا صورنا على حقيقتها جثثاً محترقةً وأجساداً كألواح الزجاج، يقتادنا إلى بؤرة في جوف الأرض جلّادون مقاولون سماسرة أبالسة. يبيعون حتى لحمنا المتفحّم.
ثوانٍ أو أقلّ. وقبل أن تنفجر النافذة أمامي وتقذفني إلى الجهة المقابلة من الغرفة. عندما وضعت عيني في عين الوحش. ثوانٍ أو أقلّ تعيد نفسها بلا هوادة في رأسي منذ أربعة أيام.
سمعت صوتاً وأنا ممدّد على سريري تحت نافذتين تطلان مباشرة على مرفأ بيروت. وقفتُ على الفراش ولم يكن ببالي احتمال الانفجار. لحظات قليلة رأيت بعدها موجة ضوئية تصل الأرض بالسماء ثم تنفجر إلى شكل فطري لوّن الوجود بالأحمر، قبل أن ينفضّ في موجة ضغط رأيتُها تنهش في المدينة تدريجياً حتى انهالت كمطرقة عملاقة فوق صدري ودفعتني أمتاراً إلى الخلف.
لا أعرف كيف نجوت من زجاج النوافذ المغلقة الذي ملأ المنزل فلم أصب إلا بما يشبه الخدوش. ولكنني قبل أن أذهب لأتفقّد باقي المكان المقلوب رأساً على عقب، عدت إلى النافذة لأرى ما يجري. لم أكن قادراً على تصديق ما رأت عيني، لم يكن دماغي قادراً على تقبُّل مدى الضعف والصغر أمام هذا العملاق الذي لهث فرمانا إلى قاع الكابوس.
أخرجتُ هاتفي بسرعة لأقتنص ما تبقى في البطارية وقتاً أطمئنّ فيه على أحبتي ورفاق عمري وأهلي. فالتيار مقطوع قبل ساعة من الانفجار. كلهم أحياء إلى الآن، بكاء كثير، رعب كثير، تساؤلات ومعها أخبار كاذبة تستثمر الكارثة من اللحظة الاولى… إحساس غريب بالسُّكر... كل شيء يدور من حولي.
أقول لجمال انني بخير وأنتبه للدم يسيل من رجلي... لا بأس بقطعة زجاج. باب المنزل مخلوع تماماً. أخرج إلى الشارع... جثث... أب يحمل رضيعاً تغطيه الدماء بالكامل... أسراب من الجرحى لا تتوقف كلها، وجهتها واحدة إلى المستشفى القريب. عجوز أصيب بنوبة قلبية على الرصيف... نركض نحمله إلى المستشفى.
أعود لأتفقّد جيراني الأقرب... كلهم جرحى... جاري السبعينيّ في المبنى المقابل خارجاً من المدخل بالثياب الداخلية والدماء تكسوه كسواً. لن أنسى اللاشيء في وجهه وهو يسرع بزجاجة الويسكي إلى فمه جرعة تلو الأخرى... لا شك أنه كان يخبّئها لمثل هذه اللحظات، فأسعار الويسكي صعبة منذ شهور.
غثيان رهيب كأنه يحرق لحمي من الداخل. أنكمش. عليّ أن أعود إلى وراء الباب المخلوع. كلّ الدم والزجاج لم يزيلا من بصري صورة الوحش. لحظة محاولة اغتيال المدينة. أحسستُ بحاجة رهيبة للاغتسال وعندما أدركتُ المياه خفت من ملامستها. شعرتُ بحرمة النتن الذي تركه نفس الوحش على جسدي. شعرت بذنب رهيب سأحمله إن أنزلت قذارة الجريمة عن جلدي.
الذي رأيته في تلك اللحظة كان حقيقةً حيةً متحركةً لا تقبل الشك. نحن ضحايا أكثر ممّا كنّا نعتقد بكثير. نحن تحت الاحتلال الشامل والعنفي. هذه الحقيقة من النوع الذي يفقدك صوابك إن حاولتَ نسيانه، لأنه أكبر حتى من الذاكرة.
لديّ يقين تامّ بأن الذين يشعرون بما أشعر اليوم كثر. هؤلاء، نحن، عبرنا دون اختيار إلى ضفة أخرى من القطيعة مع سلطات الاحتلال هذه بسائر أركانها وأوجهها المتلوّنة. واقتنعنا تماماً بالتخلّي عن أيّ وهمٍ بهوامش ما يسمونه في «بلاد برّا» حياةً طبيعية، إلى أن نبرأ ولو قليلاً من ذلّ ما عاد ممكناً لعاقل أن يحتمله.
إلى الآن، لم أبكِ. لم يحن هذا الأوان بعد.