قال لي نعّوم باشا، الذي حكم المتصرّفيّة لمدّة عشر سنوات، خالطاً ما بين المزح والجدّ أنّ الوقت الذي ستصبح فيه المتصرّفيّة ملكاً أميركيّاً وسكّانها مواطنين أميركيّين ليس ببعيد.
روى رافندال، قنصل الولايات المتحدّة العام في بيروت، تلك القصّة سنة 1903. بعده بربع قرن، رفع المقدّم بيشكوف تقريراً إلى رؤسائه في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة يزعم فيه أنّ 8725 من أصل 9188 (أي 95٪) مهاجراً لبنانيّاً سجّل دخولهم إلى الولايات المتّحدة بين 1908 و1909، عادوا إلى وطنهم في السنوات التالية.
يخلص المؤرخ أكرم خاطر، مصدر تلك الروايات، أنّ الأرقام المتضاربة والمبالغ فيها، في حالة بيشكوف، لا تُبطل حقيقة عودة الكثير من المهاجرين الأوائل.
الهجرة أقدم من الجمهوريّة اللبنانيّة (1920). كذلك الأمر بالنسبة لتحويلات المهاجرين التي شكّلت ما يقارب نصف إيرادات جبل لبنان في أواخر العصر العثماني. ويمجّد الفلكلور القومي اللبناني المغترب: المبادر الناجح الذي يندمج ويتألّق في المهاجر دون نسيان وطنه. فالهجرة في عرفه لا تُختبَر كعملية سلخ اضطراريّة تأتي نتيجة العوز أو انعدام الفرص، بل كتحقيق نزعة لبنانيّة أصيلة إلى المغامرة الفرديّة. الهجرة، وفق الرواية الأسطوريّة، تعود بالفائدة على الجميع: المهاجر الذي «يظبّط حالو»، لبنان الذي يزرع سفراء له في العالم، والبلاد التي تزداد غنىً بوافديها الجُدد.
لا تتسّع هذه الرواية للهزيمة والفقد الذي لا يعوَّض، أو للاضطهاد الذي قد يتعرّض له المهاجر، أو للاستغلال الذي قد يمارسه في المهجر.
يرتكز نقد الفلكلور، وهو الأقرب إلى الحقيقة، على تحميل الأنظمة اللبنانيّة المتعاقبة مسؤوليّة إفراغ البلاد من أبنائها وبناتها. فحروبها وفسادها واقتصادها غير المنتج دفعت بالكثير إلى المغادرة. باختصار، بلاد تصدّر ناسها وتعيش من تحويلاتهم.
إلّا أن ما يجمع تمجيد الهجرة ونقدها هو التركيز على أسبابها وإغفال تبعات عودة المغتربين. وهذا ما ينتبه إليه أكرم خاطر الذي يلحظ أثر العائدين في تكوين هويّة لبنان الحديثة وطبقاته الوسطى. فيظهر، على سبيل المثال، أنّ ما أصطلح على اعتباره البيت اللبناني التراثي هو أحد نتائج عودة المغتربين. فقد شكّل انتشار سقوف القرميد الأحمر في أوائل القرن العشرين في جبل لبنان، والذي لم يكن متوفّراً حتّى أواخر 1870، أحد الرموز الأكثر وضوحاً إلى ثروة العائدين.
يتناول تأريخ خاطر فترة 1870-1920، لكننا نستطيع توسيع الحيّز الزمني لأطروحته حول آثار العودة على الداخل اللبناني في فترة ما بعد تأسيس الجمهوريّة.
فلو نظرنا إلى تاريخ لبنان من باب نخبه السياسيّة في فترات مختلفة، نلحظ أنّ عدداً لا يستهان به منهم يمكن اعتبارهم من العائدين: بيار الجميّل (مصر)، أنطون سعادة (البرازيل)، الإمام موسى الصدر (إيران)، رفيق الحريري (السعودية). وشكّل المتموّلون العائدون من بلدان الخليج، وعلى رأسهم الحريري، ركناً أساسيّاً من نظام الجمهوريّة الثانية.
أضاف هؤلاء رأسمالاً سياسيّاً إلى رساميلهم الماليّة، حصّنها قانونيّاً وفتح لها نوافذ جديدة لمراكمة ثروات إضافيّة. ويمكن اعتبار الطفرة النفطيّة التي سبقت قيام جمهوريّة الطائف ببضعة عقود أحد شروط قيامها الأساسيّة من خلال إنتاجها لنُخَب ماليّة طرحت نفسها كبديل مدنيّ عن أمراء الحروب لزمن السلم الأهلي وتحالفت معهم.
نشهد حالياً انقلاباً لصورة المغترب العائد الذي كان يأتي بساعات الذهب والثياب الإفرنجيّة في أوائل القرن العشرين، ومحمّلاً بإلكترونيّات من جميع الأحجام في آخره.
فكلّ ذلك يبدو ذكرى بعيدةً من ماضٍ ما قبل كورونيّ. العائد اليوم مشبوه، وموضع شكّ، فقدومه قد يشكّل خطراً على الأمن الصحّي للمقيم. فتشهد البلاد التي تصدّر مواطنيها للعمل في الخارج، كلبنان وبنغلادش، تشنّجاً نابعاً من الانقسام الجديد بين المقيمين والوافدين. وربّما يتمنّى البعض أن تقتصر نقليّات المغترب على إرسال الـ«فريش موني» مع إبقاء جسده خارج الحدود، مستبدلين فرنسا بالمغتربين في العبارة المنسوبة إلى البطريرك الحويّك: فرنسا كالشمس يا حضرة الجنرال، تنير من بعيد، وتحرق من قريب.
تبعات الجائحة على الاقتصاد العالمي وتأثيرها على حركة السفر، والتحوّلات الاقتصاديّة والسياسيّة في الخليج، إضافة إلى الحصار الأميركي المالي، تترافق اليوم مع انهيار ماليّ وتآكُل لمؤسّسات الدولة. فتزداد علاقة الخارج بالداخل تعقيداً وضبابيةً على عتبة مئويّة لبنان الأولى (أيلول 1920)، التي تأتي بعد أكثر من قرن على عودة أوائل المغتربين وانقراض سقوفهم القرميديّة.