نقد هندسة الانهيار الاقتصادي
ديمة كريّم

قيصر اللبناني

22 حزيران 2020

بدأت تعلو أصوات من داخل السلطة تبحث عن خيار بديل لصندوق النقد: من التوجّه شرقاً إلى إنشاء نظام مقايضة مع إيران على الطريقة الفينيقية، وصولاً إلى الاتكال على القطاع الخاص للنهوض بالاقتصاد المتبخّر.

لوهلة، يبدو وكأنّ تلك الأصوات قد اقتنعت بالطرح الذي طغى في أوساط الثورة منذ ستة أشهر بضرورة إنتاج حلّ داخلي (وليس التوجّه شرقاً). لكن فاتها أنّ ذلك قد حدث قبل أشهر، عندما كان الحلّ الداخلي لا يزال متاحاً، قبل أن تقوم السلطة بالمستحيل ليصبح اللجوء إلى صندوق النقد هو المسار الوحيد (وليس مجرّد خيار).

فجأةً، ومن دون سابق إنذار، صارت السلطة تريد إقناعنا بأنّ هناك حلولاً وخيارات أخرى متاحة. وبدأت عملية شيطنة خيار الصندوق بحجّة شروطه وأهدافه السياسية، حتى كاد يرتبط الخضوع لبرنامج الصندوق بسلاح المقاومة.


لم يسبق لبلد أن ذهب بحماسةٍ إلى خيار الصندوق مثلما ذهب مندوبونا. كان أوّل ما قامت به حكومة حسان دياب، بعد تشكيلها، هو طلب المساعدة التقنية من الصندوق، آملةً بأن يأتي الصندوق بجواب على ما إذا كان خيار التعثّر عن دفع اليوربوند خياراً صائباً. لم يجب الصندوق وقتها، واكتفى بإعطاء تكنوقراطيّينا دروساً مكثّفة حول كيفيّة كتابة خطّة شاملة تُعتبَر مقبولةً من قبل الصندوق.

اختارت الحكومة التعثّر، وكأنّه حلّ سحري وليس بدايةً لأزمة طويلة. وباع القطاع المصرفي جزءاً من اليوروبوند إلى جهات خارجية في عملية جاءت أشبه بنكاية كجواب على خيار التعثّر الوشيك.

منذ ذلك الحين، لم يعد الصندوق خيارًا، بل أصبح الجهة الخارجية الوحيدة التي تقبل أن تتفاوض مع دولة مفلسة اختارت تعثّرًا غير منظّم.


هبّ تكنوقراطيّونا للعمل على الخطّة واضعين نُصب أعينهم جمهورًا وحيدًا هو الصندوق. واكتفى جميع أقطاب هذه السلطة بترداد أنّ الصندوق لا يطلب إصلاحات إلا تلك التي علينا تطبيقها أساساً، لكنّه سيعطينا الدولار بالمقابل، فكيف لنا أن نرفض؟ بدأ الحديث عن «توزيع الأعباء»، والطلب من الجميع تحمّل جزء من فاتورة الخسارة كواقع أليم لا مفرّ منه. حتى أنّ مرشد هذا النظام أطلّ ليبارك للحكومة بخيارها، ويؤكّد أنّه لن يقف سدّاً منيعاً بوجه «الخيار الإمبريالي».

لكن، ما أن بدأت المفاوضات مع الصندوق، حتّى بدأت رؤوس مفاوضينا الشامخة تتطأطأ. فهل اكتشفت الحكومة فعلاً أنّ شروط الصندوق قاسية؟

منذ بدء المفاوضات، لم تكن السياسات التقشّفية وفاتورة الأزمة المتعلّقة بعموم المواطنين موضوعًا شائكًا، بل بدا وكأنّ الوفد اللبناني كان يباركها في كلّ اجتماع تفاوضيّ. ما ترفضه السلطة، في الواقع، هو الجزء الآخر من أعباء الأزمة، والذي يقع بحسب خطّة الصندوق على عاتق القطاع المصرفي الذي سيحتاج إلى إعادة هيكلة لتصفير الخسائر المتراكمة منذ ثلاثين عاماً.

فحين يتعلّق الأمر بالقطاع المصرفي، يقف الصندوق عملياً إلى يسار السلطة في مشهد غير مألوف في العالم، خصوصًا حين تتحجّج السلطة بضمان حقوق المودعين لعدم تقبّل خسائرها وخسائر المصارف، ومن دون تحديد أيّ إطار زمنيّ لتسديد هذه الودائع.


ما يجمع اليوم ابراهيم كنعان ورياض سلامة وحسن نصر الله هو مقاومة شروط الصندوق. فبعدما تنازل نصر الله وقبِل بالصندوق، أتت الفرصة المتاحة للانقلاب عليه لأسباب تتعلّق بأولويات إقليمية. أمّا رياض سلامة، فلم يرد يوماً الخضوع للصندوق حفاظاً على إمارته المصرفية والألاعيب التي يجيد فعلها لتخبئة خسائره عبر هندسات مالية. ويبدو ابراهيم كنعان حريصًا على أموال المساهمين في المصارف (لأسباب طائفية؟) وسائر الطبقة السياسية.

أما الصندوق، فهو الرابح الأكبر من هذه العملية من حيث «تنظيف» سمعته. فلم يسبق للصندوق أن استعمل كلمة «عدالة» و«إنصاف» و«إجماع» بهذه الوتيرة. فإن خضع لبنان لبرنامج الصندوق، سيتباهى الصندوق بأنه فرض طريقةً «عادلة» لتوزيع الخسائر. وإن لم يخضع لبنان، سيتباهى الصندوق بأنّه رفض التدخّل في بلد حاولت سلطته تحميل جميع الأعباء لشعبها. وهكذا، كما عودتنا هذه السلطة على الإنجازات، تزيد على رصيدها إنجاز إعادة إنتاج صورة الصندوق كجهة تصرّ على الإنصاف والعدالة في توزيع الخسائر.

لم تعد المشكلة تكمن بـ«خيار» الصندوق، بل بخيار السلطة إنتاج حلّ غير مسبوق أسوأ من الخضوع للصندوق. هذا الحلّ يعني عملياً تراكم الخسائر اليومية، ومعاناة مع نسب تضخّم وصلت إلى 150 ٪ على المنتجات الغذائية، وسوق سوداء تملأ حياتنا في هذا الشرق الذي نحاول اللجوء إليه فيما تفرض السلطة علينا عقوبات أين منها قانون قيصر.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا