في خطابه التأبيني لقاسم سليماني، وضع الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إصبعه على أحد مكامن الخلاف الرئيسيّة مع ما بات يسمّى الخطاب المُمانِع. ففي حين كان ملايين العراقيّين في الشارع يتحدّون القمع والقتل مطالبين باستقالة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، لم يتردّد نصر الله في كَيْل المديح لعبد المهدي نفسه. لم يفعل ذلك لجهله بما يحدث في العراق، بل لعلمه الدقيق بما يحدث، وقلقه البالغ منه.
فحكومة عبد المهدي التي انفجرت الثورة العراقيّة ضدّها تستحقّ كلّ الثناء والتقدير، بحسب نصر الله. فهي، أوّلاً، رفضت أن يكون العراق جزءاً من الحملة على إيران. وهي ثانياً، رفضت تأييد صفقة القرن. وهي، ثالثاً، ذهبت إلى الصين لإجراء عقود بمئات مليارات الدولارات… وهي، رابعاً، رفضت أن تبقى الحدود مغلقة مع سوريا. لكن ماذا عن العراقيّين وحياتهم ونظام حكمهم؟ استبق السيّد السؤال قائلاً: ما بدّي فوت بتفاصيل عراقية.
قبل العراق، كان قد حدث الأمر نفسه في سوريا، وإن بطريقة أكثر مأسويّةً مع محاولة تأبيد النظام الأسديّ وإرسال الشباب اللبنانيين ليموتوا دفاعاً عن ذاك الأبد. لم يحدث ذلك بسبب يقين الجبهة الممانعة بالدفاع عن حياةٍ سورية مزدهرة، بل حدث وفق مقولاتٍ وحججٍ تندرج تحت إطار ما يُشبه «ما بدّي فوت بتفاصيل سوريّة».
يشكّل هذا الاحتقار لـ«التفاصيل» رافداً أساسياً لكثيرٍ من ردود الفعل اللبنانيّة بُعيد الإعلان عن صفقة القرن. فقد تدافع سياسيّون وإعلاميّون لبنانيّون للتعبير عن سخطهم من هذه الصفقة. لكنّ هذا السخط ما لبث أن قام بحركةٍ التفافيّة، فانتقل من ترامب ونتانياهو إلى الثورة اللبنانية. كما لو أنّ تلك الثورة مسؤولة عن إلهاء الناس بـ«التفاصيل اللبنانيّة» فيما فلسطين، القضية المركزية، تحتضر. وقد اتّخذ هذا الموقف منحىً هزلياً مع توجيه رئيس مجلس النوّاب، نبيه برّي، رسالةً لأنصاره بمناسبة صفقة القرن، يدعوهم فيها للخروج من الشارع والالتزام بموقعهم كـمقاومين في مواجهة عدوانيّة إسرائيل. فمَن تراه يملك ترف توجيه غضبه ضدّ المحاصصة والفساد والمصارف والانحياز الطبقي ومافيا الزعامات ما دامت هناك مؤامرةٌ بحجم صفقة القرن؟
لكنّ صورة فلسطين كـ«قضيّة مركزيّة» واجهت تحدّياً من جهتَيْن:
الجهة الأولى هي تلك التي ترى في مركزيّة فلسطين علبة محارم لمسح قاذوراتها. فترفع الدوز الفلسطيني في خطابها كلّما تكاثرت خطاياها تجاه شعبها. رئيس الحكومة حسّان دياب كتب ستبقى القدس هي البوصلة وستبقى فلسطين هي القضية. وكتب أحد النوّاب من ورثة الزعامات الآفلة عذراً فلسطين الحبيبة. الأوّل هو بروفيسور ارتضى لنفسه أن يكون قناعاً للمافيا الحاكمة، وشكّل حكومةً أولى مهامّها الانقضاض على الثورة. أمّا الثاني، فمِن الذين أوعزوا لزعرانهم بالاعتداء على المتظاهرين في طرابلس.
الجهة الثانية هي التي تستعجل الانتقال من الموقف الذي يحطّ من قدر الثورات الشعبيّة إلى تخوين الثائرين أنفسهم. ويبدو العونيّون مستعجلين أكثر من غيرهم لهذا الانتقال الذي يمهّد لهدر الدماء، أسوةً بتجارب حمص وحلب والناصريّة. فبالنسبة إلى أكثر من مسؤول عونيّ، ليست الثورة تفصيلاً أمام هول المؤامرة على فلسطين وحسب، بل إنّ ما يجري عندنا هو جزء من المؤامرة نفسها. لا يتفهّم هذا الموقف أحقيّة مطالب التظاهرات، وإن فعل، فلا يتفهّم المتظاهرين أنفسهم، بل يجعل منهم أداةً للمؤامرة الكبرى على المنطقة. فلسطين، بالنسبة لهؤلاء، ليست أداة تعمية ولا علبة محارم، بل هي الرصاص الحيّ. الرصاص الذي يُطلَق باتّجاه الشعوب العربية.
ليس صدفةً هنا أن تكون بعض الأبواق العونيّة هي أوّل من خرج إلى الشاشات بعد 17 تشرين لتعلن أنّ الثورة سيُقضى عليها في لبنان كما قضي عليها في سوريا. هكذا يبدو القمع البهلواني الذي بدأ يمارَس في لبنان على يد شلّة جميل السيّد في وزارة الداخلية، أو القمع الدمويّ الذي اشتدّ في إدلب على يد النظام السفّاح تجلّياً لصفقة القرن، أو الترجمة السورية واللبنانية للصفقة.
لم تفتتح صفقة القرن هذا النمط من التفكير. ففلسطين الشائعة لبنانيًا لم تعد فلسطين التاريخيّة، ولا حتّى فلسطين أوسلو. فلسطين الشائعة باتت «فلسطين الصنم» المنشغلة بالتعمية عن «التفاصيل» السورية والعراقية واللبنانية، لا بل حتى التفاصيل الفلسطينيّة نفسها.