تعليق طوفان الأقصى
سامر فرنجية

ما مغزى النقد؟

ردّ على الردّ

24 نيسان 2024

ممانعة جديدة

بات هناك موّال عند بعض من يريد أن يأخذ «موقفًا نقديًا» ممّا يجري في غزّة، بأنّ نقده ممنوع أو غير مرحّب به. فهناك قلق في «الأجواء النقدية» أن تتحوّل الإبادة إلى غطاء لإسكات النقّاد، كما جرى في الماضي مع قضايا أخرى استُغِلّت من قبل الأنظمة. ففي ظلّ كل ما يجري، تبدو مسؤولية الناقد أن يحافظ على مساحة للنقد، أكثر من أي شيء آخر. 

لكن كما أنّ هناك من اختبأ وراء مقولة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة لإسكات الاعتراض، هناك من يختبئ وراء «حرية النقد» لكي يتهرّب من مواجهة ما يقال له، وهو أن هذا النقد بات مضجرًا، يكرّر الموقف ذاته وكأنّ شيئاً لم يحدث، ممّا يتطلّب إعادة النظر ببعض الفرضيات السياسية. في الواقع، لا يبدو قلق النقّاد اليوم مِن منْع النقد، بقدر ما هو قلق من أنّ هناك حدثاً جديداً، قد يتطلّب الخروج من الاصطفافات الماضية. 

لم يأتِ انهيار النقد في منطقتنا جرّاء قمع الحريّات أو سيطرة ثقافات دينية وحسب، بل بات ضحية اصطفاف سياسي حوّل النقد إلى ما يشبه «الدعاية» للطرف الذي ينتمي أو يميل إليه الناقد، لتصبح مسؤولية النقد ترويض الواقع كي لا يعكّر الصفاء الأيديولوجي. في وجه «الممانعة»، ثمّة «ممانعة» أخرى بات هدفها التأكيد، كما الأولى، على أولويّة هذا الاصطفاف، وعلى أنّ لا صوت يعلو فوق صوت هذا الاصطفاف.   


معيار النجاح والفشل

كتب بشار حيدر مقالةً ردّ فيها على عدد من المقالات التي نُشرت في ميغافون وتشكّك بجدوى هذا النقد، وذلك من خلال مقارنته الواقع الفلسطيني اليوم بمرحلة الثورة السورية. ينطلق مقاله من نقطتين: الأولى هي أنّ حماس تتحمّل مسؤولية تبعات هجوم 7 أكتوبر على غزة وأهلها، باعتبار أنّه كان عليها أن تدرك حجم الردّ الإسرائيلي قبل الشروع بعملية طوفان الأقصى، خاصة ضمن الأفق المسدود لأي حل للقضية الفلسطينية. 

يحاول حيدر، بصعوبة، أن يبرّر موقفه الداعم للثورة، رغم الإبادة التي لحقتها، بأنّه كان موقفاً عقلانيَا. فكما يكتب، «لم يكن أفق نجاح الثورة السورية في إسقاط النظام مغلقاً منذ البداية». لا أريد أن أدخل في سجال حول إمكانيات نجاح الثورة آنذاك، وربّما كان من الجدير بحيدر الاعتراف بأن خصومه كانوا على حق عندما حذّروا من تبعات ثورة كهذه، إن كان هذا هو معيار النقد فعليًا. 

لكنّ الأهمّ هو أنّ هذا المعيار مغلوط بالأصل. أولًا، لا نحدّد ميزان الدعم والنقد (وهما ليسا بالضرورة متضاربَيْن) حسب إمكانيات النجاح. هذا ينتهي بنا أن نتحوّل إلى تجّار القضايا الناجحة. ولا أعتقد أن حيدر يختلف مع تقييم كهذا. فهو، كما أنا، دعمَ عدداً من القضايا التي «خسرت». فهل علينا اليوم أن ننتقد مَن لا يزال يحاول الاستمرار بثورة ضدّ الأسد أو مَن يعترض على سطوة «حزب الله» أو مَن يحاول مقاومة «الاحتباس الحراري»، كونها كلّها قضايا خاسرة؟…

ثانيًا، وهنا يكمن ربّما الموقف السياسي المختبئ وراء تسلسل حيدر المنطقي، وهو أنّ المسألة الفلسطينية منتهية بالنسبة لحيدر، وليس هناك ما يمكن فعله لإعادة إحيائها. فالحلّ هو طمس هذه المسألة في خزانة ذكريات الطفولة والتوقّف عن أي نوع من الاعتراض، سواء أكان عنفيًا أو سلميًا. وهذا الموقف أيديولوجي، بمعنى أنّه الفرضية التي تحرّك النص أكثر من حسابات الربح والخسارة. وهذا الموقف الذي يرفض أن يرى أنّ فلسطين جزء من المنطقة، ليس إلّا الموقف المعكوس للممانعة التي لا ترى المنطقة إلّا من زاوية فلسطين. 

قلق النقد هنا هو مِن «عودة» القضية الفلسطينية، التي قد تؤدي إلى تقوية طرف على آخر في الاصطفاف الحالي. فعلينا الإسراع بطمس أي تحوّل في الواقع لنؤكد أنّنا كنّا على حق، وما زلنا على حق، وسنبقى على حق. 


الأخلاق في خدمة المحور

النقطة الثانية التي يقدّمها حيدر هو أنّ فعل 7 أكتوبر يجب أن يُنتقَد، بغضّ النظر عمّا آلت إليه الأمور. «فإذا كان مقاتلو حماس، ومن كان معهم، قاموا عمداً بقتل وخطف مدنيين عُزّل بينهم كبار في السن وأطفال»، يكتب حيدر، فهُم موضوع نقد شرعي. 

لنتناسَ البروباغندا حول يوم 7 أكتوبر، والتي تمّ دحض معظمها. ولنتناسَ للحظةٍ «الإبادة» التي تجعل كل ما حصل في 7 أكتوبر تفصيلًا. العنف ضدّ المدنيّين مرفوض، ومن السهل نقده. 

لكن هل يريد حيدر أن يقنعنا بأن كل القضايا التي دعمها كانت خالية من أي عنف؟ لنرَ كيف يقارب فرضية عنف ارتُكِب في الثورة السورية. يكتب «لا اعتقد ان الكثير منهم كان ليتردد في القيام بنقد هجوم من هذا النوع واعتباره تشويهاً للثورة ومطالبها». أي أنّ هذا العنف، إن ارتُكِب، كان ليكون تشويهاً للثورة، لا يمس جوهر ما هي عليه، خطأ ارتكبه دخلاء على الثورة. لكن، في المقابل، يبدو أنّ عنف «حماس» هو من طبيعة هذا الحراك وجوهره، ولا يمكن فصله عن الفلسطينيين أجمعين. أليس من السهل كتابة «القضية الفلسطينية عادلة، وإن ارتُكبت انتهاكات، فهذا تشويه للقضية». هل هذا يحلّ المعضلة الأخلاقية؟

من الصعب في السياسة تدعيم موقف بأخلاقيات مطلقة مثل هذه. إمّا أنّ هذا نفاق، وإمّا، وهذا ما يمكن أن يكون أخطر، أنّ صاحب هذا الموقف مؤمن فعليًا بأنّنا أمام خيارات بين الخير المطلق والشرّ المطلق. 

فهل القلق نابع من أنّ ما يجري يعكّر الصفاء الأيديولوجي الذي دعّم اصطفافاً كهذا على مدار عقود؟ 


منطق «نقد إسرائيل ولكن…»

يمكن لمن يريد، أن ينتقد ما يشاء. 

لكن يبدو هذا التشردق بنقد حماس وكأنّ الصراع الحالي هو بين طرفين متساويين، غريبًا بعض الشيء. لا يكفي كتابة «لكن الإقرار بمسؤولية حماس لا يخفّف أبداً من مسؤولية إسرائيل. بل يعني فقط أن هناك نقداً مشروعاً لحماس»، لطيّ صفحة إسرائيل في هذا النقاش. وهذا ليس تكرارًا لمقولات الممانعة، بل هو سؤال عن حدث «الإبادة» في هذا النص الذي يلخّصها كردّة فعل على أعمال حماس. فإذا أخذنا هذا المنطق إلى خلاصاته، ليس في غزّة اليوم إلّا «حماس»، حتى إسرائيل ليست إلّا ردّة فعل لها. ومن وراء حماس، يطلّ المحور برأسه، فيعود القلق. 

الغريب في المقارنة أنّ حيدر يضع حماس التي هي حركة واضحة المعالم، في مقارنةٍ مع «الثورة السورية» التي هي تجميع لفظيّ لعدد من الأفعال والممارسات والحركات والميليشيات. ربّما لو كانت المقارنة بين الشعب الفلسطيني والشعب السوري، لكان حيدر قد فهم لماذا عندما ننظر إلى فلسطين اليوم، فإنّ ما نراه هو «إبادة» تقوم بها دولة مع كل مؤسساتها، في ظلّ أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل، ضمن تحالف عربي وغربي. ولكان فهم أيضًا أنّنا مدركون كل الإدراك فشل حماس وعنفها، لكنّ الموضوع في مكان آخر. 


ما مغزى النقد؟

نعود في الختام إلى سؤال السياسة في النقد. ما مغزى النقد؟ 

المؤكّد هو أنّ حسابات الربح والخسارة ليست هي ما يحدّد اتجاه النقد (وإن أراد أحدهم اتباع معيار كهذا، فعليه الخروج من السياسة). وليست العدالة المجرّدة أيضاً ما يحدّد هذا الاتّجاه. بل إنّها السياسة، أي اعتبار أنّ النقد، مهما كان مفعوله ضئيلاً، يشكّل سلاحًا علينا معرفة لماذا ومتى نستعمله. ففي وجه إبادة كالتي نعيشها، هل الضرورة السياسية اليوم تكمن فعليًا في نقد حماس؟ ولنقول ماذا في السياسة؟ 

المشكلة مع هذا النقد أنّه، إمّا يبدو وكأنّه تحايل أخلاقي وإمّا أنّه لا يهدف إلّا إلى التأكّد من أن صفاوة الاصطفاف السياسي ما زالت صلبة. فلا أحد يمنع النقد، لكن من الصعب أن يتحمّس المرء لما يبدو مجرّد تكرار لما سمعه منذ بدء الثورات العربية، أي أنّ لا مكان للسياسة خارج سياسات المحاور. فمنذ انطلاق هذه الثورات وصولًا إلى الحدث الفلسطيني اليوم، جرت محاولات لرسم تلك المساحة التي يمكن فيها بناء سياسة مع خيال أوسع ممّا تقدّمه الممانعتان. وفي معيار الربح والخسارة، قد تفشل تلك المحاولات، لكنّ هذا لا يحدّد لماذا نكتب وننتقد ونساجل. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الخارجية الأميركية: ليس للبنان حقّ الدفاع عن النفس
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 3/12/2024 
حدث اليوم - الثلاثاء 3 كانون الأول 2024 
مصطفى الذي لم يغادر حارة حريك
03-12-2024
تقرير
مصطفى الذي لم يغادر حارة حريك
نتنياهو: وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الحرب 
ما هي الفصائل المُشاركة في عمليّة «ردع العدوان»؟