تعليق الغرب
سامر فرنجية

غيرة المسيحيّة من الإسلام

30 تموز 2024

الفضيحة الأخيرة

في عالم بات يستهلك «الفضائح» و«المفاجآت» و«السجالات» على مدار الساعة، تحوّل حفل افتتاح الأولمبياد الأخير في باريس إلى مناسبة جديدة لحفلة من الغضب والسخط العالميَّيْن، من المتوقع أن تدوم حتى نشوب فضيحة جديدة، تبقي ماكينة الغضب والسخط شغّالة. فالغضب والسخط هما شعور عالمنا اليوم، ووسائل تواصله.

ما سبّبَ موجة الاستنكار الأخيرة هي فقرة في حفل افتتاح الأولمبياد، أعادت تمثيل مشهد «العشاء الأخير» لليوناردو دا فينشي مع فنانين يعبّرون عن تنوع الهويات الجنسية، للاحتفاء بالتنوع والاختلاف وتقبّل الآخر، كما فسرّ توماس جولي، المخرج المسرحي المسؤول عن حفل الافتتاح. رغم نجاح هذا الحفل، حسب استطلاعات الرأي وتغطية الصحف العالمية له، أثارت هذه الفقرة سخط المسيحيين حول العالم، وشكّلت دخولهم في سوق صراع الهويات المضطهدة. 

على الأقلّ، إلى أن يحين موعد الفضيحة المقبلة وحفلة السخط الجديدة.  


صراع الفنّ مع الدين

للوهلة الأولى، يبدو الموضوع وكأنّه حلقة جديدة من مسلسل صراع الفنّ مع الدين المعتاد في الغرب. فتاريخ الغرب حافل بمحاولات الفنّ تخطّي حدود المسموح وتحدّي التابوهات الدينية، ولوحة «العشاء الأخير» هي من أكثر اللوحات التي أُعيدَ تدويرها وإعطاؤها معاني غير دينية. يقع هذا التاريخ من التلاعب وتحدّي الدين في صلب رواية الغرب عن ذاته، كونه الجغرافيا الوحيدة التي نجحت في «خصخصة» الدين وتحويله إلى منتج ثقافي غير معفى من النقد والسخرية. على الأقلّ، هكذا يودّ الغرب أن يصوّر ذاته، قبل خروج هذا الكمّ من «المسيحيين» الساخطين الذين ذكّروا بأنّ هذا الغرب «العلماني» ما زال «مسيحيًا»، أو هو في صدد عودته إلى جذوره المسيحية.


سياسة الهويّات حين تصبح سياسةً رسمية

قد يبدو الموضوع وكأنّه الصراع المعتاد بين الفنّ والدين، لكنّ الطرف الذي تسبّب بالسخط هو طرف رسمي، الدولة الفرنسية، والمناسبة حفل رسمي، حفل افتتاح الأولمبياد. فالهدف لم يكن تحدي حدود الممنوع، بل تبني الاختلاف والتنوّع والاحتفاء بسياسة الهويّات، وتحويلها إلى سياسة دولة، منزّهة عن إشكالية السلطة. الهدف هو إظهار تنوّع المجتمع الفرنسي وهوياته المعقّدة والمتنوعة، ضمن خطاب ليبرالي عن تقبّل الآخر والتنوّع.  وللتأكيد على هذا الهدف، قال توماس جولي بالتوضيح بعد انفجار الفضيحة: لم يكن هدفنا أن يكون تخريبيًا. لا نريد أن نكون تخريبيّين. كل ما نريده هو الحديث عن التنوع. والتنوع يعني أن نكون سويًا. كما سارع منظمو الحفل بالاعتذار، مؤكّدين أنّه ما مِن نيّة لديهم لازدراء الأديان أو إهانة المؤمنين. 


سياسة دولة منزّهة عن إشكالية السلطة

لعلّ ثمنَ أن تصبح سياسةُ الهويّات سياسةً رسمية هو تغييب إشكالية السلطة من مسألة تمثيل الأقليّات. فعلى مائدة «العشاء الأخير»، كان غائبًا سبب اضطهاد هذه الأقليّات وتاريخ العنف الذي جعلهم أقليّات. غابت أيضًا أقليّات أخرى، كــ اللاجئ القابع على شواطئ أوروبا التي تحتفي بالتنوّع، وكذلك الفلسطيني الذي يباد ويُمنَع عليه رفع علمه في «أولمبياد تقبّل الآخر»، وأيضاً المحجّبة الممنوع حجابها في ألعاب التنوّع، والفقراء الذين طردتهم بلدية باريس من أجل الاحتفال بالإنسانية الموحّدة. 

مَا لم يكن غائبًا هو «المسيحية»، رغم جنون المسيحيّين، الذي تلا الحفل. فلم يجد المخرج المسرحي الغربي أرضاً لتوحيد الاختلاف والتنوع إلّا التراث الغربي، بشقّه الكلاسيكي والمسيحي، المتمثل بمشهد «العشاء الأخير»، ليعيد التأكيد على كونية الغرب. ففي دفاعه عن ذاته، عاد المخرج إلى هويته كفرنسي ليفتخر بتفوّق ثقافته: في فرنسا، لدينا حريّة الإبداع والحرية الفنيّة. نحن محظوظون في فرنسا أن نعيش في بلد حرّ… لدينا حقوق كثيرة في فرنسا، وهذا ما أردت إظهاره. قد لا تكون المسيحية موجودة كديانة، لكنّها كانت حاضرة كثقافة جامعة لشتى أنواع الاختلاف. فالاستشراق يأخذ أشكالًا مختلفة، ولا يموت. 


المسيحيّة تطالب بمكانها في سوق المظلوميّات

عندما تغيب إشكالية السلطة عن سياسة الهويّات، تتحوّل هذه الأخيرة إلى مجرّد سباق بين مظلوميات تتنافس مع بعضها بعضاً على من سيمثّل ومن سيغيّب من المشهد. كان لافتًا دفاع المسيحيين عن ديانتهم من خلال خطاب سياسة الهويّات، الذي يعارضونه ويعتبرونه سبب المشكلة. فطالبوا بأن يعامَلوا معاملة المثل مع الأقليّات الجنسية، كما استنكر العديد استضعاف المسيحيين مقارنة بالخوف من المسلمين، نتيجة عنفهم. فكأنّ «المسيحيين» رفضوا الكونية العلمانية التي قدّمها لهم المخرج، ليطالبوا بموقعهم كضحية، مثلهم مثل الضحايا الممثّلة على مائدة العشاء الأخير الأولمبيادي. 

هذا ما يحدث عندما تغيّب الليبرالية إشكالية السلطة لتحوّل المسألة إلى مجرّد عملية حسابية لتمثيل أكبر عدد من «الضحايا»: يتحوّل المسيحي، الذي لا يعاني من أي اضطهاد أو تمييز في الغرب، إلى «ضحية» تطالب بحقوقها، مثلها مثل ضحايا فعليين يعانون من اضطهاد وتمييز يومي.


مظلوميّة الفاشيّة الصاعدة

ليس تحوّل المسيحية إلى «ضحية» إلّا الحلقة الأخيرة في تحويل مكامن السلطة إلى «ضحايا». قبلها، تحوّل «الذكر» من هوية مسيطرة إلى ضحية في عالم يقال إنّه بات تحت سيطرة النسويات، و«الأبيض» من رمز للامتياز إلى ضحية سياسات «التمييز الإيجابي»، و«الغني» من مستغِلّ إلى ضحية سياسات كارهة للنجاح الفردي، و«الغربي» من وريث الاستعمار إلى ضحية خطابات ما بعد الكولونيالية، و«العائلة» من البنية المسيطرة إلى ضحية مجتمع الميم-عين. هذه المظلومية التي لا واقع مادياً لها، هي تربة الفاشية الصاعدة التي باتت تنمو في مستنقع استياء المسيطرين من النقد الذي بات يوجّه إليهم. 

أراد فنّانو الدولة أن يحتفلوا بالاختلاف، لكنّهم لم ينجحوا إلّا في تقوية الفاشية الصاعدة من خلال الوقوع في فخ الحرب الثقافية المتخيّلة. لكن هل يبدو ذلك مستغربًا؟ أفليسَ هذا السقوط الترجمةَ الثقافية لسياسة ماكرون، التي تشكّل الرافعة الأساسية لخطاب اليمين المتطرّف؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شهيدان في غارة إسرائيلية على شاطئ صور  
إسرائيل ترتكب مجزرةً في منطقة البسطا
62 شهيداً في عدوان الخميس 21 تشرين الثاني 2024
غارة إسرائيلية تقتل علي علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في دورس
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 22/11/2024