أطفأ البيان الشيوعي، نهاية الأسبوع الماضي، شمعته الثانية والسبعين بعد المئة (21 شباط 1848).
البيان الذي وُلِد في لندن، بعدما كلّفت العصبة الشيوعية عضوَيْها كارل ماركس وفردريك إنجلز بصياغة برنامج نظريّ وعمليّ للحزب، تحوّل بعد عقود على نشره إلى أكثر الوثائق السياسية تأثيراً بعدما تمّت ترجمته وتدواله عالمياً.
خفتَ بريق البيان في العقديْن الأخيريْن من القرن الماضي. وفي ما يخصّنا، خسر ماركس عالميّته بعد الثورة الإيرانية. غدا بين ليلة وضحاها دخيلاً غربياً ينتج فكراً لا يتلاءم وخصوصيّات مجتمعاتنا الإسلامية. وبعدما شكّل التراث الماركسي نظريةً نقديةً لتشخيص الاستغلال الطبقي وأداةً سياسيةً لتخطّيه، تحوّل إلى أحد عوارض الاختراق الغربي الذي ينبغي التخلّص منه والشروع بإعادة بناء الشخصية الإسلامية.
أحرجت دينامية الثورة الإيرانية، والصحوة الاسلامية إجمالاً، اليسار ووضعاه في موقف دفاعي. بُعَيْد 1979، بدا غيفارا مسنّاً أمام حيويّة الإمام الخميني الذي أنشأ دولته وصدّر ثورته التي خرج حزب الله من تحت عباءتها. فرضت القوى الجديدة هيمنتها الثقافية: حجبت الهويةُ الدينيّة المصلحة الطبقيّة، وتفوّق التراث (والأصالة) على الاقتصاد السياسي، وحلّت محاربة الاستكبار مكان التصدّي للإمبريالية.
إلّا أنّ شيئاً ما يحصل اليوم يُعيد للبيان الشيوعي نضارته.
من بيروت إلى تشيلي مروراً بالولايات المتّحدة، تعود المسألة الاجتماعية إلى قلب المواجهات السياسية. أمّا في المقلب الآخر، فتبدو الخمينية السياسية خارجة عن سياق الحدث. تعجز على التشخيص الاقتصادي والإحاطة بأبعاده المختلفة خارج الإطار المباشر للعقوبات عليها. يكفي الاستماع إلى الأمين العام لحزب الله عندما يتطرّق إلى المواضيع الاقتصادية، خاصّةً بعد 17 تشرين والانهيار النقدي. يبدو كالذي جُرّ غصباً عنه للتطرّق إلى موضوع ليس من اختصاصه وأوسع بكثير من نطاق تجاربه. وربما الأهم من كلّ ذلك أنه موضوع فائق التجريد والتعقيد، لا يستطيع أن يتحكّم بتوقيته ولا بامتداداته الجغرافية. فلا أعداء يمكنه أن يفاجئهم بعملية خطف من هنا أو تفجير من هناك. ولا ملامح ثقافية وشخصية لخصم يستطيع أن يدرسها بتأنٍّ ليمارس عليها حروبه النفسية. لا شيء من كلّ ذلك. ربما يفسّر ذلك لماذا يصرّ نصر الله أن يسحب الاقتصاد إلى دائرة أمانه: لغة الحروب.
منذ أيّام «شكراً قطر» بعد حرب تمّوز إلى التغنّي بالمال الإيراني «الطاهر» و«النظيف»، يختصر نصر الله المسألة المالية ضمن نظرة سياسية- أخلاقية- حربية ثنائيّة (الطاهر/ النجس) لا تستطيع الإحاطة بآليات الإنتاج وتداول المال ضمن اقتصاد مُعَولَم.
فالمال، كما الاقتصاد عامّةً بالنسبة إليه، يخضع لثنائية الصديق/ العدو السياسية. لذلك حدّثنا السيّد نصر الله عن مسؤولية الإدارة الأميركية عن الوضع في لبنان وعن الصين التي باستطاعتها أن تساهم بنشل الاقتصاد اللبناني في تشرين الثاني الماضي. ثمّ دعا مؤخراً لمقاطعة البضائع الأميركية.
لكن للاقتصاد الرأسمالي العالمي منطقه الذي لا يكمن حشره ضمن محورَيْ الأمين العام (8/14 آذار، إيران/ السعودية، الصين/ الولايات المتحدّة). ففي زمن الحروب التجارية بينهما، زاد استثمار الشركات الأميركية في الصين في النصف الأوّل من 2019 6.8 مليار دولار. وبالرغم من انخفاض الاستثمارات الصينية المباشرة في الولايات المتحدّة بعد تولي ترامب الرئاسة، لا تزال الصين تملك سندات خزينة أميركية بقيمة أكثر من ترليون دولار. يمكننا بسهولة تخيّل سلعة أميركية مصنّعة في الصين أو مصنّعة في ولاية أميركية برأسمال صيني وأيْدي مهاجرين «غير شرعيّين». الاقتصاد الرأسمالي المعولم لا يلتزم بالحدود السياسية للدولة- الأمّة من جانبَيْ رأس المال وقوّة العمل.
يضاف إلى كلّ ذلك إسقاط شقّ التبعيّة وفقدان السيادة الاقتصادية من مفهوم الإمبريالية عندما تمّ استبداله بالاستكبار. فمعركة الممانعة ضدّ الغطرسة هي بالمصاف الأوّل معركة سياسية- عسكرية وثقافية ضدّ الغرب والولايات المتّحدة تحديداً. فإذا نظرنا إلى الصين من باب سياساتها الاقتصادية التوسّعية في القارة الأفريقية، هل نجدها في محور المقاومة؟ هناك نقاش قائم منذ عقد حول الدور الصيني في أفريقيا: شريك اقتصادي يساهم بالتنمية أم قوّة امبريالية جديدة؟
لا هويّة واحدة ولا طائفة واحدة لرأس المال الذي هو علاقة اجتماعية وليس حرباً بين أشرف الناس والأنجاس الأشرار. تدور معركة العدالة الاجتماعية اليوم على أرض أبعد ما تكون عن قوّة التعبئة المذهبية الحربية الدائمة التي- بالرغم من عدم خلخلة قدرتها على البطش المحلّي والإقليمي- تفقد أكثر فأكثر قدرتها على الهيمنة الثقافية.
شيءٌ ما يحصل اليوم يعيد للبيان الشيوعي نضارته.