فكرة ثورة تشرين
سمير سكيني

17 تشرين بعد عام ▪︎ والمسألة بعمقها، طبقيّة

22 تشرين الأول 2020

في طريق عودتنا سيراً على الأقدام، فجر 18 تشرين، في منطقة الباشورة- البسطا، قابلنا شبّاناً يضرمون النار بحاويات النفايات عند تقاطع شارع مار الياس. كانوا ممّن انسحبوا من الساحة بعد أن أصبح البقاء فيها مستحيلاً. سألت: بس عم تقطعوا الطريق؟ ما تكسروش شي هون. استهجنوا تلقائيّاً: شو باك؟ معقول كسّر هون؟ هيدا الدكنجي وضعه متل وضعي، ما عاملّي شي. بس ايه بنزل بكسّر المصارف تحت. هني سرقونا.

كان هذا الجواب، من هؤلاء الشباب المُفقَرين، كفيلاً بإتمام نشوَتي بعد ليلة 17 تشرين: ضدّ المصارف، مع الإشارة إلى سوليدير على أنّها «هونيك، تحت»، مفروزة عن مساحتنا العامة، مشرّعٌ تكسيرها.

أيّام قليلة، وأصبحت ردّية الوطن للعمّال- تسقط سلطة رأس المال الأكثر رواجًا (بعد الهيلاهو طبعًا). للمرّة الأولى في تاريخ لبنان المعاصر، تصبح العداوة لسياسة رأس المال علنيّة للدرجة هذه، مُدرَكة من الجماهير. طبعًا لم يكن هذا وعيًّا طبقيًا مكتملاً، بل عناصر منه. في بدايات تشرين، شاركنا بأكثر من تظاهرة وصرخنا هذا الشعار، لكن لم يكن أحد ليردّده وراءنا. يومها، لم تكن الظروف الموضوعية ناضجة بعد.

بعد فترة، أطلق مرافقو أحد النوّاب في طرابلس النار على المتظاهرين. صرخ أحدهم من بيروت على الهواء: قتلولنا واحد بطرابلس! هذا القول، بعفويّته، ليس تفصيليّاً. هو استكمال لرسم حدود المعركة: هم، النائب ممثِّلاً السلطة، قتل واحداً منّا نحن، المتضرّرين، سواء كنّا في طرابلس أم في بيروت. المسألة إذن عابرة للمناطق، وواقعنا واحد.

هذا في الاجتماع. في الاقتصاد، الأرقام توَضّح: 1 ٪ من المودعين يملكون 48 ٪ من الودائع (2017). 10 ٪ من اللبنانيّين يستحوذون على 70 ٪ من الثروة في البلاد. بالمقابل، في العام 2010، بلغت نسبة العائلات ما دون خط الفقر 17%. في العام 2018، 30%. في أواخر العام 2019، 50%، واليوم، تخطّت النسبة النصف بالتأكيد.

ثم خرجت الأحزاب الطائفية بالتتالي تدافع عن النظام الذي ينهار، أو تحاول ركوب الانتفاضة. في الحالتَين، كانت مأزومة. وفي الحالتَين، كانت هذه الأحزاب تتقاذف التُّهم في العلن، ثمّ تتّفق في الخفاء، تختلق شؤونًا ثانوية لتلهي الناس بها، بتناقضاتٍ ثانوية، لكنها تتّفق على لبّ مسألة: استمراريّة النظام، وتوحّد مواقفها الداعمة لهذه الوجهة (الموقف من صندوق النقد الدولي، اللوائح الانتخابية الموحّدة في وجه كل معارض…).

وكانت ممارسات هذه الأحزاب بمعظمها مضادّةً لمصلحة قاعدتها الشعبية. لكن لا بأس، خطاب واحد كفيل بإقناع الجماهير؛ الجماهير عَينها (باستثناء القاعدة المنظّمة الضيّقة) التي بدأت تتلمّس اليوم، مع استمرار انهيار سعر الصرف ورفع الدعم وإشكالية الترسيم، أنّ القيادة لا تسأل ولا من يحزنون.

كلّ ذلك يدلّل أنّ ليس الجميع في الموقع ذاته، يوجد من هم «فوق» ومن هم «تحت»، من يُفَقَّر ومن يفقِّر، من ينتج القيمة ومن يستولي عليها دون المشاركة في عمليّة الإنتاج حتّى. هناك فئات، ثمّ هناك طبقات. ثم يتّضح أنّ المسألة في عمقها، مسألة طبقية، وإن تمظهرت بأشكالٍ مختلفة، وإن وُجِدَت بالتوازي صراعات من نوع آخر.

وهنا الحاجة لأدوات معرفيّة تفكّك الواقع، فالقسمة في لبنان ليست كلاسيكيّة (طبقة حاكمة وطبقة محكومة)، بل أشد تعقيداً. نتكلّم عن تحالف طبقي مُسَيطر، يضمّ كبار المصرفيّين ووكلاءهم بالسياسة والمحتكرين والمضاربين العقاريّين والمؤسّسات الدينيّة... وله أجهزة أمنية، وتشبيكات مع الخارج، ومؤسّسات إعلامية وتربوية... وتدعمه، للمفارقة، قاعدة جماهيرية، مضادّة لنفسها، دون لومٍ عليها لِكَون حياتها اليومية مرتبطة بالسلاح الأمضى لهذا التحالف: شبكة العلاقات الزبائنية.

أتت هذه القسمة نتيجة سياسات اقتصادية رَيعية نيوليبيرالية، مولّدة بطبيعتها للأزمات، وضعت «النظام الطائفي» واجهةً لها، فغَيّبت بذلك الشقّ الطبقي. المسألة عويصة، تفتيتها صعب، فنحن هنا نواجه ثلاثينَ عاماً من التخطيط والهندسات الماليّة والفرز الطبقيّ والسطو على النقابات وأطر العمل الديموقراطي، وبالتأكيد سنحتاج لأكثر من عام لخلق البديل.

يبقى السؤال حول طبيعة هذا البديل، والشكل الأمتن لخوض صراعنا الطبقي في لبنان: وهو بالتأكيد شعبي، علمانيّ، ديموقراطي، يراعي مصلحة الجماهير: 1) يعمل على تأطيرها وتنظيمها في شبكات اجتماعية شعبيّة نقيضة للشبكة الزبائنية. 2) يتحرّك في الشارع. 3) يبني، من خلال هاتَين المسألتَين، قاعدة جماهيريّة تملك ما يكفي من الثقة لحمل البرامج البديلة.

أمّا ملخّص ذلك كلّه، فهو أنّ صراعنا في لبنان، طبقي، ونصّ.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية