تعليق انتخابات
سامر فرنجية

انتخابٌ ثمّ تكليف

أسبوع عمرُه سنوات

15 كانون الثاني 2025

بأقلّ من أسبوع، تمّ انتخاب رئيس للجمهورية، العماد جوزاف عون، وتكليف رئيس للحكومة، القاضي نواف سلام. إسمان يتمتّعان بثقة مؤسّستية وشعبية، أعادت بعض الأمل لبلاد تعاني من أزمات متراكمة. بدا الانتخاب السريع غريبًا في نظام اعتاد التأجيل والعرقلة والمحاصصة، ما أدّى إلى اتهامات بتدخّلات أجنبية ومؤامرات وانقلابات وطعنات بالظهر. لكنّ هذا الأسبوع عمره سنوات، سنوات الانهيار وسنوات الاعتراض على النظام، وربّما الأهمّ، سنوات من التحوّلات البنيوية التي مُنِعت من التعبير حتى انفجرت بهذا الأسبوع. 


السيادة

أسبوعٌ دستوريّ

لم يتطلّب الأمر الكثير. أقلّ من 48 ساعة كانت كافية للتوافق على رئيس جديد للجمهورية، بعد أكثر من سنتين من التأجيل والفراغ. انحسمت الأمور ببضع ساعات قبل انعقاد الجلسة التي اضطر رئيس مجلس النواب على إعلان عقدها بعيد وقف إطلاق النار. لم يتطلب الأمر الكثير أيضًا أمام تكليف رئيس جديد للحكومة. أقلّ من بضع ساعات كانت كفيلة للانتهاء من أسماء الماضي، واختيار اسم من خارج المنظومة، في استشارات سادها تنافس غير اعتيادي لنظام أدمن التوافق المسبق حتى الشلل. أقلّ من أسبوع كان كافيًا لإعادة إطلاق العجلة الدستورية التي كانت مجمدة منذ سنوات، رغم كل الأزمات والمآسي والصدمات. 

دركبة نظامٍ متهاوٍ

المفاجأة الدستورية لم تأتِ جرّاء لحظة مسؤولية عند الطبقة السياسية اللبنانية، بل أتت، بالعكس، نتيجة انهيار التوافق القاتل وشلله الذي ساد لسنوات. تطلب الأمر انهيارًا وانفجارًا وحربًا وتهجيرًا وسقوط نظام لكي «يتدركب» النظام نحو الانتخاب، في محاولة لمواكبة التغيّرات الضخمة التي طرأت على شروط وجوده، وبدفع دولي غير مسبوق. وحتى آخر لحظة بقيت القوى السياسية تحاول التهرّب من مسؤوليتها الدستورية، لولا الضغوط الخارجية والداخلية. بكلام أوضح، جاء الانتخاب والتكليف من تحت ركام النظام، الذي توفّي قبل سنوات، وإن كان لا يوجد إعلان رسمي يؤكد الوفاة. فتفاجأ الجميع بـ«سهولة» الانتخاب، كما تفاجأ الجميع قبل أسابيع بسقوط نظام الأسد، وذلك لأنّنا كنّا محكومين من أشباح ترفض الموت. 

السيادة المعلّقة

حاول معارضو الانتخابَيْن أن يتمسّكوا بالسيادة للتشكيك بما جرى وتصوير الانتخاب كمجرّد إملاء خارجي فُرِض على إرادة وطنية. لكنّ ما لم ينتبهوا له، إن وضعنا جانبًا تاريخهم المعادي للسيادة، أنّ للسيادة شروطاً، فقدَ لبنان تحت سيطرتهم معظمها. فإذا عدنا للثورة وإعلانها فقدان الشرعية الشعبية للنظام اللبناني، مهما حاولت الانتخابات من بعدها ترميمها، أو للأزمة الاقتصادية وتدميرها الممنهج لمقومات الحياة في ظل غياب أي رغبة إصلاحية، أو للحرب التي أظهرت عدم مسؤولية القيّمين عليها، لم يعد للسيادة أي معنى في سياق كهذا. فليست السيادة والتوافق ما تمّ خرقهما في هذا الأسبوع الطويل من الاستحقاقات الانتخابية، بل ممارسة الابتزاز والسيطرة على المؤسسات، اللتين أفرغتا السيادة من أي مضمون فعلي. 


إصلاح

العسكري والقاضي 

في وجه هذا الانهيار، لم يكن من الممكن اختيار مرشّحين من الطبقة السياسية. فذهب الخيار إلى المؤسسات التي تحيط بالسياسة، أي الأمن والقضاء. ففي بلد باتت تسيطر عليه ريبة مشروعة من السياسيين، غالبًا ما تتحوّل إلى شعبوية، ومع انسداد أي أفق للإصلاح من خلال القنوات الديموقراطية، كان لا بد من اختيار شخصيات إصلاحية من خارج الحقل السياسي، شخصيات لديها رصيد من الثقة المؤسّستية والشعبية لمواجهة الأزمات المتراكمة في لحظة تخبّط إقليمي. ليس سرًا أنّ طيف التجربة الشهابية، بمعضلاتها ومخاوفها، يحوم فوق هذا الاختيار، أكان في حجم الأزمة الراهنة أو فقدان شرعية الطبقة السياسية أو الدور الإقليمي الذي أحاط بالخيار. 

… والثورة 

كذلك ليس سرّاً أنّ أوساط «ثورة تشرين» اعتبرت ما جرى نصرًا لها، خاصة بعد تكليف رئيس الحكومة الذي اقترحته تلك القوى قبل سنوات. فبعد أعوام من التخبّط، استطاع «الجانب الإصلاحي» للثورة أن يلعب دورًا وازنًا لكسر الجمود والاستفادة من أزمة الأحزاب لتمرير مرشحين إصلاحيين إلى أعلى مناصب الحكم. فبات للثورة جانب في الحكم، وجانب آخر خارجه، كالرقيب الديموقراطي الذي لا مهرب منه. الثورة ليس مجرّد إصلاح، هي أيضًا هذا الخارج عن السلطة، أيّا تكُن، بإسم عدالة تبقى معيارًا يحوم فوق أيّ نظام.

معارضات

ليست «الثورة» القوّة الوحيدة التي سوف تتغيّر بعد هذا الأسبوع. فالتسميات التي سادت على مدار السنوات الأخيرة، من ممانعة ومقاومة وسياديّين ومعارضة، باتت جميعها خارج السياق الجديد. فالتغييريّون باتوا مستشاري الحُكم، والمعارضة فازت بالتصويت، وأصحاب السلاح باتوا يتباكون من الطعن بالظهر. أما الممانعة، فباتت في شقة في موسكو. لكنّ هذه التحوّلات بالتسميات العلنية تخبّئ تحوّلًا بنيويًا، وهو دخول معيار جديد للانقسامات السياسية، نابع من طبيعة الإصلاحات التي سيفرضها العهد الجديد. فالكلام عن ضرورة الإصلاح، وكأنّه سياسة جامعة، يتجاهل أنّ الإصلاح بجوهره عملية تقسّم حسب المصالح. مطلب الإصلاح جامع، لكنّ مضمونه يقسّم، وهناك خارطة جديدة من الأعداء والحلفاء ستفرض إيقاعاً جديداً على السياسة.


ميثاقيّة

الحرب المجاورة 

يجري كل ذلك والحرب ما زالت من حولنا، تحيط بالحالة الراهنة، بقصفها المتصاعد وجدول وقف إطلاق نارها، ليضيع الفارق بين حالة «السلم» و«الحرب»، ويزيد من حالة الانفصام في البلد بين من يحتفل بعهد الإصلاح ومن لا يزال قابعاً بحالة الحرب. ليس سرًا أن الحرب شكّلت خلفية ما حدث، كانهيار أخير في مسلسل الانهيارات، لكنّ عواقبها لن تنتهي مع انتخاب رئيس، مهما ساده التفاؤل. هناك شرخ اجتماعي يشكّل العقبة الأساسية أمام أيّ أفق جديد في هذا البلد، ولا ينفع التكابر عليه. 

الابتزاز بالميثاقيّة

لكن ما مِن معالجة ممكنة لهذا الشرخ مع هيمنة حزب الله على الخيار الشيعي. عاد الثنائي الشيعي إلى مقولة «الميثاقية» لمعارضة الحكومة الجديدة، ليحوّل هذا الشرط المشروع إلى مادة ابتزازية. فالميثاقية لا تستقيم مع سيطرة كاملة على قرار طائفة، وإلّا تتحوّل إلى ابتزاز لا نهاية له، كالذي شهدناه منذ أكثر من عقد من الزمن، مع ابتكارات دستورية كالثلث المعطل والميثاقية وغيرها من التلفيقات. فبات هناك تقليد من تحويل مواد دستورية أو شروط ميثاقية إلى أحكام مطلقة، يراد منها إعطاء الأقليّة قدرة تعطيلية، تحوّلها إلى كتلة حاكمة. 

فنّ التراجُع

لم يُخفِ نوّاب حزب الله امتعاضهم من مجريات الأمور، سواء من خطاب القسم أو ما اعتبروه طعنًا بالظهر مع تكليف رئيس للحكومة لم يأتِ من خلال صفقة معهم. من حق حزب الله أن يحاول مقاومة تهميشه أو ترجمة خسارته العسكرية إلى تنازلات سياسية، لكنّه لا يستطيع معاندة واقع جديد لم يعد فيه الحزب مسيطراً على السياسة في لبنان. لم يبدأ هذا الواقع مع ما سمّاه إعلام الحزب «انقلابًا»، بل بدأت تباشيره تلوح منذ سنوات، شهدت فقدان شرعية حزب الله وتآكل سيطرته، قبل أن يتلقى ضربات قاضية خلال الحرب ومع سقوط نظام الأسد الحليف. فمنذ عام 2005، وحزب الله يعاند واقع الاعتراض على نهجه، ليُظهِره كمجرّد تلاعب من قِبَل السفارات أو مؤامرات طائفية. اليوم، بات حزب الله أمام لحظة مصيريّة، قد تقرّر مستقبله ومستقبل البلاد، لحظة التقاط فرصة طيّ صفحات الماضي الدمويّة من خلال القبول بواقع جديد. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إحياء ذكرى مجزرة كليّة العمارة في جامعة حلب
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 15/01/2025 
تعليق

انتخابٌ ثمّ تكليف

سامر فرنجية
أبو اسكندر: 17 عاماً في سجون الأسد
15-01-2025
تقرير
أبو اسكندر: 17 عاماً في سجون الأسد
اعتقال المعارض المصري أحمد المنصور في سوريا