لعلّه من المجحف بحقّ كثافة ارتكابات النظامَيْن في لبنان وسوريا بحقّ شعبيهما، أن نشبّه واحدهما بالآخر. فامتياز كلٍّ منهما عن الآخر لا يمكن هضمه، وتخطّيه، بسهولة. يتغيّر السلوك قليلًا جرّاء تبدّل آلية ونوعية وكثافة المواجهة. لكن النتيجة هي، بشكل من الأشكال، واحدة: فقر وحرمان وقتل، أبوية واضطهاد واستغلال وقمع وترهيب وترغيب، وفوق هذه وتلك تغريب.
يمكن للبعض أن يميّزوا بين النظامَين وفقًا لكمية التصفية والقتلى. لكن سرعان ما يتمّ الرد، دون أي تلكّؤ، بأن النظام وقواه في لبنان جمعوا كل البراميل التي رماها النظام في سوريا على شعبه، فحاولوا أن يعوّضوها بحق بيروت وناسها في انفجار المرفأ، خصوصًا وأن هذه الأنظمة تتنافس بالإبادة والمأساة.
لقد أبى النظام وقواه في لبنان التسليم بالمرتبة الأولى للنظام السوري، فما كان منهم إلا أن أهدوا اللبنانيين انهيارًا وانفجارًا. (وهنا لا نفاضل، إذ لا مكان للمفاضلة بالجريمة، فما واجهته الثورة السورية من إبادة مستمرة على مدى سنوات لا يمكن أن تضاهيه أي جريمة). انفجار ضرب في بيروت، وسُمِعت أصداؤه في العالم الصامت، والمتواطئ، شرقًا وغربًا. بجميع الأحوال، كانت نتيجة سلوك هذين النظامين واحدة، تغريب الناس.
نعم، إنها تغريبة يمكن أن تنعكس في شعار واحد وحيد، على منوال الشعار البعثي الشهير:
تغريبة واحدة في بلدَيْن
راجعين يا هوى
هي التغريبة ذاتها التي انتشرت مأساتها على حيطان حلب زمن الإبادة... فالتغريب. حينها تم التعبير عن كل هذا الحب للمدينة، والوعد والشوق لإعادة لقياها، والسخط على مَن فجّرها وهجّر ناسها، في عنوان إحدى أغاني فيروز: راجعين يا هوى راجعين.
فعلى الرغم من التشابه بينها، إلا أن نوعية وأدوات التغريبة في لبنان مختلفة. في حلب أخذت شكل الهروب من الغارات ومن القتل المباشر. أما في لبنان، فأخذت شكل طرد و«كحش» النظام وقواه للبنانيين.
هناك، في سوريا، بالطائرات. هنا، في لبنان، بالأقدام.
لكنّ اللافت أنّ بيروت لم تشهد مثل هذه النوستالجيا في شعارات ناسها على جدرانها، إذ تكاد تكون على يقين أنه لا يوجد أي لبناني يفكّر في «الرجعة»، بل كلّ ما يفكر فيه هو الرحيل. كأن يكون الرحيل كثيفًا وممتدًا، فلا يترك أي مجال لمن يشاركه الحيّز. رحيل إلى أي بقعة جغرافية أخرى، إلى أي مكان لا توجد فيه مثل هذه الشياطين الحاكمة.
نعم، إنها تغريبة واحدة لكن بدأت بوجهتين، واحدة كانت تطمح إلى الرجعة، قبل أن يبدأ بالتبدد والضمور شوق ووعد لقيا حلب في أزقّة الغربة، وواحدة من دون أيّ مسرب التفاف.
استكمال جملة سمير قصير
لعلّ الشهيد سمير قصير كان أوّل من تنبّه إلى أواصر العلاقة، على مستوى الربيع والثورة، بين الشعبين. فأعلن في مقالته الشهيرة «ربيع العرب»، والتي كانت من أحد أسباب قتله: إن ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، إنما يعلن أوان الورد في دمشق. لكن استكمال الجملة يعلن، في مضامينها المضمرة، وإن صمتًا، أن تغريبة الثورة حين تُعلَن في دمشق، فإن محركاتها تبدأ بالهدير في بيروت.
هذا ما لم يكذَّب أي خبرٍ بشأنه. فسرعان ما قابلت التغريبة اللبنانية تغريبة الشعب السوري، حين بدأت أفواج المهاجرين من البلدين تتزايد، برًا بحرًا جوًا، بشكل شرعي أو بشكل غير شرعي. إذ لم يكتفيا باختلاط تعبهما ورعبهما وفقرهما في بلادهما، بل استكملاه باختلاط اختناقهما في عرض البحر.
نعم، إنها تغريبة تكاد ألّا تستطيع التمييز بين جنسيات ضحايا عبّارات الغرق فيها، لا سيما، وخصوصًا، بعد أن يضاف الفلسطينيون إليها.
كحش
منذ أيام دار نقاش بيني وبين صديق، فقام بتشبيه ما يجري في بيروت بنهاية السهرة في مطعم، أو حانة، حين يضعون الفاتورة أمامك، من دون أن تطلب ذلك. ولاحقًا، حين يهمّون بتشطيب الطاولات وتنظيف الأرضية، كله بهدف الإغلاق، وإن استدعى الإغلاق «كحشك» وطردك. هذا ما تقوم به السلطة في لبنان، إذ لم تكتف بالتشطيب وبإيصال الفاتورة فحسب، بل بدأت بإطفاء الأضواء أيضًا.
نعم، إنها تغريبة واحدة، شبيهة بالشكل، وبالمضمون، وبالوجهة، وبالانعتاق من أسر الجسد باتجاه أسر الروح. إلّا أنها مفروضة. تغريبة تستدعي التفكير في المشابهة، في المواجهة، في التكامل بمشروع لا تغريبي، مشروع سيدرك ضرورته اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون والعراقيون... عاجلًا أم أجلًا حين تتكثّف وتختمر ضرورة التكاملية السياسية بينهم، ضمن هويات منفتحة على العالم جرّاء انتشارها في هذا العالم.