في الشهر الفائت، كُتب للرأي العام أن ينشغل بازدواجيّةٍ مصيريّة: إمّا دفع استحقاق اليوروبوند، وإمّا انقطاع القمح والدواء والمحروقات. وهذه المعادلة تستند، بطبيعة الحال، إلى أنّ احتياطيّ الدولار لدى المصرف المركزي يتضاءل، وعلينا تحديد الأولويّات: أهي للمواطن واحتياجاته، أم هي، كما عوّدنا هذا النظام، للولاء للدائنين مهما كلف الأمر؟ بدا الأمر وكأنّ هذه المعادلة ستُحسَم في 9 آذار. انقسم الاقتصاديّون بين مؤيِّدين للتخلّف عن الدفع، يستشهدون ببلدان تخلّفت عن سداد مستحقّات دينها السيادي، من اليونان إلى فنزويلا وصولاً إلى روسيا التسعينات، ويندّدون بالتخويف من التخلّف، مشدّدين على أنّ الأولويّة للمواطنين. أمّا المحذّرون من التخلّف، فركّزوا على «سمعة» لبنان في الأسواق العالمية: لبنان القوي الذي لم يسبق له أن تخلّف عن دفع ديونه، بينما ركّز الأكثر ذكاءً على التداعيات القانونية للتخلّف. أمّا رئيس جمعية المصارف، سليم صفير، أعلن موقف المصارف بوضوح: على الدولة دفع مستحقات اليوروبوند، وإلا… لا بل قامت المصارف، بضربة غير أخلاقية، ببيع سندات من اليوروبوند المستحقة في آذار إلى صناديق خارجية.
يحاول رئيس الحكومة، حسّان دياب، التوفيق بين الوجهتين: فهو يريد عدم الدفع من دون التخلّف، ويريد المحافظة على سمعة لبنان، ويريد تأمين القمح والدواء وتأمين ودائع المواطنين. ففي «الباوربوينت» الشهيرة، هناك مساحة تتّسع لمصالح الجميع. لكنّ أوّل إنجازات رئيس حكومة التكنوقراط هي الاستعانة بالمزيد من التكنوقراط. لذلك، طلب المساعدة التقنية من صندوق النقد الدولي. فالمرحلة دقيقة والأرقام معقّدة، ولا بدّ من المزيد من آراء خبراء دوليّين إنجازاتهم موثّقة بأكثر من مجلّدَيْن.
عملياً، تعني هذه «الاستشارة» التقنية أمراً واحداً: مصيرنا لن يتقرّر في 9 آذار. فعلى عكس ما يشاع، لن يأتي الصندوق وتكنوقراطه إلى لبنان لتقديم «نصيحة سريعة» لتكنوقراطيّينا حول الدفع أو التخلف في استحقاق اذار، بل سيأتون لتقديم خطة شاملة تتضمّن مجموعة إرشادات وسياسات اقتصادية ومالية ونقدية ضمن مسار واضح، من ضمنه إعادة هيكلة الدين العام. لا يخفى على أحد ما هي الإجراءات التي سينصح بها الصندوق لخفض العجز، عبر «ترشيد» الإنفاق وزيادة الواردات وخفض الدَّيْن العام وكلفته (خصخصة، خفض سعر الصرف، زيادة ضرائب، إلغاء الدعم، خفض نفقات القطاع العام والتعويضات). وللمتضرّرين من هذه السياسات، سيكون بانتظارهم برنامج فقر يموّله قرضٌ من البنك الدولي.
لكنّ موقف الصندوق من الأزمة المصرفيّة قد يكون لافتاً. فمن الجائز أن يقف الصندوق، رغم كلّ تاريخه، إلى يسار حكومة دياب المدجّجة بالمصرفيّين، عبر اقتراح إعادة رسْمَلة جزء من القطاع المصرفي من أموال كبار المودعين (haircut) أو من المودعين جميعاً لكن بشكل تصاعديّ، على عكس ما تبحث عنه هذه الحكومة من تصدير للكلفة بدلاً من تحمّلها.
سيطلب تكنوقراطيّونا من الصندوق «نصيحة» سريعة بشأن دفع مستحقات اليوروبوند. هنا أيضاً، سيعطي الصندوق جوابه المعهود: إذا تخلّف لبنان عن الدفع، فهذه ورطة من الصعب الخروج منها، وسيُقصى من الأسواق المالية العالمية، ولن يستطيع إعادة هيكلة الدين العام إلا عبر خطة شاملة. فبعكس ما تعتقده حكومتنا، فإنّ إعادة هيكلة الدين ليست مجرد نقاش بسيط مع الدائنين الخارجيين الذين تستحق سنداتهم في آذار.
سيسأل تكنوقراطيّونا عن الموارد اللازمة لتنفيذ هذه الخطّة الشاملة، وسيجيب الصندوق بأنّ الخضوع إلى برنامجه سيؤمّن الموارد الكافية، وسيؤكّد مصداقية لبنان أمام المجتمع الدولي في ملفّ الإصلاح وسيحفّز الدائنين على إعادة هيكلة الدين، وسيشجّع المجتمع الدولي لدعمنا، كلٌّ وفق شروطه. سيسخسخ بروفيسورنا ومستشاروه من احتمال استعادة ثقة المجتمع الدولي ودعمه، وسيهرع إلى إقناع راعيه حزب الله بالخيار الوحيد أمامنا.
بذلك، يصبح دفع أو عدم دفع استحقاق آذار مجرّد تفصيل. لن نُحرَم من القمح والأدوية لأنّ صندوق النقد «إلى جانبنا»، وهو يشكل ضمانة للتشاور مع الدائنين لإعادة هيكلة الدين العام. أما البرنامج الذي يمكن أن نخضع له، فستقرّ الحكومة بأنّه قاسٍ، لكنّه سيؤمّن الموارد اللازمة لتحويل الاقتصاد من ريعيّ إلى مُنتج، كما لو أنّ الأمر نزهةٌ من بيروت إلى صيدا.
إذا تحقّق هذا السيناريو، سنجد أنّ السؤال الحقيقي الآن هو: هل ندفع استحقاق اليوروبوند ونتسوّل من المجتمع الدولي والمؤسّسات الدولية، أم نتخلّف عن الدفع ونتسوّل من المؤسسات تلك؟ الثابت في هذه المعادلة هو التسوّل، ولكن بشروط أقسى من قبل. لماذا؟ لأنّ لا أحد في السلطة يريد تحميل المصارف والمستفيدين منها كلفة هذه الأزمة، مهما تعمّقت مآسينا. سنتذكّر بعد عشر سنوات، أنّ حكومة التكنوقراط كانت حكومة المسيل للدموع بجميع المعاني.