نقد الحرب على لبنان
فادي بردويل

حرب ما بين الذاكرة والخيال

17 تشرين الأول 2024

ذاكرة

وضع المنظار على عينيه ورأى بيروت.
بعدما أصّر كثيراً، رضخ الكبار لرغبة الصبيّ باستعارة منظار عمّه الأسود والكبير، والذي لم يصمَّم لملاءمة وجه ولد لم يتخطَّ عمره أصابع يد واحدة. شاهد حريق العاصمة من علوّ التلّة المشرفة عليها.
بهرتْه القنابل المضيئة التي كانت تزرعها الطائرات الإسرائيلية في ليل صيف الاجتياحات والمجازر.
حفر وهجها وذيولها البيضاء عميقاً في ذاكرته. ربما لأنه رآها قبل سنوات كثيرة مِن تعرّفه إلى الألعاب الناريّة التي اعتادت نخبٌ سياسية واقتصادية أن تتبارز بإطلاقها نحو السماء، في أعراس أولادها، لإثبات علوّ مكانتها الإجتماعيّة أمام مدعوّيها.
ها قد ولّى زمن المفرقعات الاستعراضيّة الصينيّة، وعاد زمن القنابل الإسرائيلية الحارقة مجدّداً.

تكسر الأحداث المفصليّة التعاقب الخطّي لأيّام الروزنامة . تتداخل على إثرها الأزمنة بعضها ببعض. يحضر صيف 1982 بكلّ وهجه كأنه ليلة البارحة، بينما يبدو الصيف الفائت لنا كفصل من زمن انصرم وعالم مضى. 

لا سيطرة للواحد منّا على تنقلات ذاكرته وأعمالها. لكنّ الذاكرة تفتح خزائنها بمفاتيح تُسبَك من عناصر آنية تستحضر البعيد من باب التماثل: من حرب إلى أخرى، ومن تفجير إلى آخر، ومن نزوح إلى نزوح، ومن صورة إلى أخرى… هكذا علّق كثرٌ بعيد تفجيرات «البيجر» بأنّها أعادتهم مباشرة إلى يوم انفجار العاصمة في 4 آب.


خيال

إلّا أن أعمال الذاكرة، التي قد تشي بأننا أمام تكرار ما لماضٍ اختُبِر من قبل، يواجهها حدس آخر، يسير عكس اتجاهها هي من الماضي نحو الحاضر. حدس مردّه إلى أن ما يشهده البعض ويشاهده البعض الآخر منذ بدء حرب الإبادة على غزة، خارج عن سياق انتظام العالم كما اختُبِر حتى الآن، لا بل هو اقتباس مباشر من مستقبل روايات الخيال العلمي الديستوبية.

تنازُع بين حاضر يتراءى كاستعادة لماضٍ اختُبِر وبين حاضر يعلن وصوله من مستقبل خياليّ.
تنازُع بين التكرار والاستثناء.
تنازُع بين دروس الماضي وتيه المستقبل.
تنازُع بين الذاكرة والقيامة. 

بعيد تفجيرات «البيجر» والأجهزة، التي تبيّن إنها- بالإضافة إلى تفخيخها- كانت تستعمل للتنصّت أيضاً لما يقارب عقداً من الزمن، وبعد أشهر من استهدافات المسيّرات للمقاتلين والقادة الميدانيين لحزب الله، بتنا على يقين أننا أمام حرب لا تخاض فقط على الجبهات التقليديّة لعالم خبرناه، بل أيضاً في عالم موازٍ تسكنه بيانات الداتا الضخمة وسلاسل التوريد العالمية.

عالم لا تعترف إحداثيّاته بحدود حزب الله التقليديّة المبنيّة على القسمة ما بين العلني والمشترك وسطح الأرض من جهة، وبين السرّي والخاصّ وباطن الأرض، من جهة ثانيّة.
عالم يضلّل العقلانيّة الأداتية التقليديّة التي لطالما تغنّى بها مناصرو حزب الله و تهيّب منها أعداؤه وذهبت ضحيّتَها نخبٌ سياسية وثقافية لبنانيّة. ذلك أنّ شرط  فعاليّة هذه العقلانية هو الإلمام بالعناصر التي تشكّل ملامح العالم قبل البدء بعمليّات الحساب البارد، والتخطيط، وصولاً إلى التنفيذ.

ما شهدناه في الأسابيع والأشهر الأخيرة ليس مجرّد تغيير لقواعد الاشتباك، بل إعادة تشكيل جذري للأرضيّة التي يجري الاشتباك عليها. إذ تبيّن أن العدوّ ليس خلف الحدود البريّة وعلى ارتفاع أمتار متعدّدة في الجوّ وعلى بعد أميال بحريّة وحسب، بل هو حاضر أيضاً بين الأيدي وعلى الخواصر، ملازم لأصحابها ومَن حولهم في كلّ زمان ومكان. هنا أيضاً لا تحضر الذاكرة، بل الإحساس بأنّ الواقع يحاكي الخيال. إذ أن تغلغل العدو الحميم مقتبس من سيناريوهات تجسيد الشرّ في أفلام الرعب التي ترتكز إلى نفخ روح مؤذية في أشياء مألوفة، خارقةً بذلك حدود العالم ونظامه، وناسفةً معها بديهيات الحياة.  

تشكّل التفجيرات والاستهدافات التي سبقتها، والتي أرجعها أمين عام حزب الله في خطابه في منتصف شباط الماضي إلى الخليوي الذي أصبح «مثل الأكسجين، لا أحد يعيش بلاه»، سوابق تدعو إلى إعادة التفكير بمفاهيم مفتاحية كالحدود والسيادة والسيطرة. فعالمنا اليوم، كما اختبرنا خلال الجائحة الكونية، بات أكثر فأكثر ترابطاً. ومن الصعب جدّاً تخيّل القدرة على الاكتفاء الذاتي الكامل فيه لدول، فكيف بالأحرى لقوى تعمل في الظلّ؟ 

أمّا الخليوي- الأكسجين، فأرسى معادلة بسيطة مفادها أن شرط التواصل الدائم والمجاني هو التنازل الطوعي عن الخصوصيّة. إمّا العزلة التامّة وإمّا الانكشاف الكليّ. فمقابل كلّ أفكارنا عن أنفسنا وانطباعاتنا عن شخصيّاتنا ونظراتنا الذاتية إلى تفرّدنا الذي لا يُستنسَخ، هناك رُدَفاء رقميّون وموضوعيّون لنا، لديهم سيرة موجزة وملامح تشكِّلها كلُّ بصماتنا وآثارنا الرقميّة.

يتّضح أكثر فأكثر أننا لسنا في 1978 ولا في 1982 ولا حتّى في 2006.


عنفٌ بلا حدود

نسف العدوان المتعاظم، على مقربة الذكرى الأولى لبداية حرب الإبادة في غزّة، الحدود بمعناها الثاني أيضاً، كقيود وسقوف. فإلقاء ما يقارب الثمانين طنّاً من القنابل الخارقة للتحصينات على حارة حريك لاغتيال أمين عام حزب الله، وتكرار الأمر نفسه بعد بضعة أيّام للنيل من السيّد هاشم صفي الدين، يمرّ اليوم عالمياً كأي عمل حربي عادي، أو حتى يُشاد به كما فعل جو بايدن الذي وصف الجريمة ذات الطابع الإبادي بأنها «ضربة جويّة إسرائيلية» حققت العدالة لضحايا نصرالله. عقد الأكاديمي الفلسطيني عزمي بشارة مؤخراً مقارنة بين تداعيات الاغتيالات الحالية واغتيال صلاح شحادة، قائد كتائب القسّام، الذي استشهد بقنبلة جويّة تزن طنّآً واحداً ألقيت على حيّ سكني مكتظّ في مدينة غزّة في صيف 2002، أودت بحياة أربعة عشر مدنياً جلّهم من الأطفال، وأدّت إلى جرح مئة وخمسين شخصاً. بحسب بشارة الذي كان نائباً في الكنيست الإسرائيلي حينها، أحدث استهداف شحادة وسط المدنيين آنذاك نقاشات صاخبة. كما طالبت منظمّة غير حكوميّة إسرائيلية بفتح تحقيق جنائي ضدّ مخطِّطي ومنفِّذي العملية، وفتح قاضٍ إسباني في مدريد بعد عملية الاغتيال بتسع سنوات (2009) تحقيقاًَ جنائياً للتحقيق بارتكاب سبعة مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين جريمة حرب، وربما جريمة ضدّ الإنسانية.

بالامكان إدراج أمثلة كثيرة أخرى عن عنف يخرق كلّ الحدود ما بين المدني والمقاتل وما بين المقاتل والمسعف، والإعلامي والمقاتل، وعن إسقاط كامل الحصانات عن المشافي والمدارس ودور العبادة ووسائل الإعلام والبنى التحتية. 

يكمن الرعب هنا بأنّ ما طبّعته حرب الإبادة في غزّة هو فكرة أنّ أيّ فلسطيني، بمجرّد كونه فلسطينياً، يصبح هدفاً محتملاً لآلة القتل الإسرائيلية، وأنّ أيّ أرض فلسطينية هي عرضة إمّا للتدمير الشامل أو الاستيطان. ولكن بالإمكان القول إنّ إسرائيل كمشروع استيطاني إحلالي لم تعترف يوماً فعلياً بوجود مدنيّين فلسطينيّين عليها حمايتهم، وإنّ الاستعمار الاستيطاني يحمل في طيّاته قوى كامنة ذات طابع إباديّ. كلّ ذلك معقول، وبالإمكان الإضافة إليه بأن إسرائيل لا تكترث بالقرارات الأممية، لكن تحوّل الكمون الإبادي إلى فعل أوّلاً، وتسعى للتطبيع معه ثانياً لأكثر من عام، من خلال دعمه بالمال والسلاح والمواقف كما تفعل بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدّة، في ظلّ العجز الدولي عن لَجمه.


الإرهاب وتقلّباته

كيف بإمكاننا فهم تحوّلات العقدَيْن الأخيرَيْن، والتي حرّرت الأعمال الحربيّة من كلّ قيودها، ومهدّت للتطبيع مع الأعمال الوحشية؟ 

لا مجال هنا لسرد تاريخي طويل، ولكن إذا أردنا مخطّطاً أولياً، لا بدّ من التوقّف عند «الحرب على الإرهاب» كمحطّة مفصليّة لفهم التحرّر من القيود في العقود الأخيرة على أكثر من صعيد، كعودة التعذيب والمعتقلات (غوانتانامو)، واجتراح مفاهيم قانونية كالمقاتلين الأعداء، للتملّص من الاتفاقيات الدوليّة التي تنظّم العلاقات في الحروب ومعاملة أسرى الحرب. تزامنت «الحرب على الإرهاب» مع الانتفاضة الثانية والعمليّات الانتحاريّة التي رافقتها، ما أتاح لإسرائيل إعادة سبك صورة المقاومة الفلسطينية في قالب الإرهاب وتثبيتها فيه، بعدما قدمت الانتفاضة الاولى نموذجاً نضالياً مغايراً عرّى الاحتلال. اقتنصت إسرائيل فرصة تنقية صورتها من خلال إعادة تدوير الاحتلال كدفاع مشروع عن النفس بوجه الإرهاب في لحظة غربيّة أكثر من مؤاتية. 

في خضم كلّ ذلك، تنامى خطابٌ استئصالي عن محاربة الإرهاب، أخرج الإرهابي من حيّز المواثيق الدوليّة وفرض حظراً كاملاً على أي محاولة لفهم «الإرهاب» بذريعة أن كلّ محاولة لتأويل الأفعال هي تبرير لها. ولا داعي لها أصلاً، لأنها ثمرة الشرّ وفاعلين أشرار ومحور الشرّ (إيران، العراق، كوريا الشماليّة) الذي شكلّه جورج بوش الابن (2002). 

أتى الغزو الأميركي للعراق في سياق تلك الحرب ليعيد إنتاج الامبريالية كقوّة عسكرية عارية بحجج واهية، تدّعي الدفاع عن العالم ضدّ الخطر الذي يمثّله صدّام حسين، وتسعى إلى تحرير العراقيين من قبضة النظام. وجّه احتلال العراق، قبل عقدين من حرب الإبادة، ضربة قوّية لمرجعية القوانين الدولية والأمم المتحدة التي لم تكترث لها الولايات المتحدة. وكان كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، قد حذّر الولايات المتحدّة قبيل الغزو بأسابيع، بأن مخططها ينتهك ميثاق الأمم المتحدة، قبل أن ينتقل بعد ذلك بسنة إلى وصف الاحتلال بأنه غير شرعي. 

أتت حرب تموّز (2006) لتكرّس في الآن نفسه معالم ذلك العالم المتفلّت من الحدود وشهيّة الولايات المتحدّة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد غزو العراق. ولم يكن تطبيق «عقيدة الضاحية» الإسرائيلية، بما هي استراتيجية كولونيالية تسعى إلى استعمال هائل للقوّة وتدمير البنى التحتية المدنية والمنازل بهدف الترويع والإخضاع، إلّا تثبيتاً لخرق مبدأ تكافؤ القوّة وسقوط حصانة المدنيين. لم تمرّ سنتان حتى نقل الجيش الإسرائيلي تلك العقيدة إلى غزة (2008)، ولم يتوقّف منذ ذلك الحين عن الارتكاز إليها في حروبه المتتالية على القطاع، حتّى تخطّتها الإبادة التي ذهبت أبعد من ذلك بكثير لتدمّر الحياة والقدرة على إعادة إنتاجها. 

بعدما أثبتت «الحرب على الإرهاب» فعاليّتها في فتح المجال لسلطة متفلّتة، انتقلت من كونها ملكيّة حصريّة للولايات المتحدّة وإسرائيل وحلفائهما إلى رمز عائم ممكن لأي سلطة التمسّك به لتشريع حروبها وتقييد حريّات مواطنيها. وهذا ما حصل بعيد الموجات الأولى من الثورات العربية التي أزاحت للمرة الأولى هدف السياسة التحرّرية عن التركيز على التصدّي الاستعمار بكل جوانبه ( القوميون/احتلال عسكري، اليسار/استتباع اقتصادي، الإسلاميون/غزو ثقافي). وعلى اثر ذلك، وطّنت الأنظمة خطاب «الحرب على الإرهاب» وما يبيحه من ممارسات، جاعلةً منه حجر الزاوية لوأد كلّ حراك والقضاء عليه. ففي مصر، نشر قانون مكافحة الإرهاب (2015) بعد سنتين على مذبحة رابعة ( آب، 2013)، الحدث الاستثنائي في تاريخ مصر الحديث، والذي قتل فيه النظام أكثر من 800 معتصم من مؤيّدي الرئيس محمد مرسي بعد أسابيع من دعوة عبد الفتاح السيسي الشعبَ المصري لتفويضه «لإنهاء العنف والإرهاب».

أمّا النظام السوري في حربه على شعبه الثائر، فكان أكثر من استغلّ ما تتيحه «الحرب على الإرهاب» من حروب متواصلة وتدمير ممنهج وخرق لكلّ الحدود، ومن بينها المجازر والحصار والتجويع والتهجير والقصف بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجّرة. فأضافت النكبة السورية مدماكاً أساسيّاً في تطبيع عالم العنف المتفلّت والخارج عن أي محاسبة. وبالطبع، لم تكن الكارثة السورية من صنع النظام وحده الذي آزرته روسيا وإيران وأذرعها الميليشيويّة في المنطقة التي نما بعضها بعد غزو العراق. أمّا حزب الله الذي لعب دوراً رئيسياً في كلّ ذلك، فتبنّى هو أيضاً في حربه السوريّة المديدة العدّة المفهوميّة لـ«الحرب على الإرهاب» بما هي حرب دفاع مقدّسة ضدّ «الإرهاب التكفيري». كما برّرها ضمنياً من خلال الإشارة إلى الخبرة القتاليّة المركزيّة التي أتاحت له المقتلة السوريّة مراكمتَها. وغاب عنه ما بتنا نعرفه اليوم بأن سنوات «التراكم» السورية تلك كانت أيضاً من حصّة الإسرائيليين الذين استغلّوها لجمع الكمّ الهائل من المعلومات عنه.

أدّت الحرب الأميركية على الإرهاب وغزو العراق إلى تضاعف نفوذ النظام الإيراني في الإقليم، فيما كشفت حرب حزب الله السوريّة على الإرهاب الحزب أمنيّاً للإسرائيليين المتربّصين به منذ حرب 2006.

في الحالتين، ثمّة مكر. ولكن بلا تاريخ كونيّ هذه المرّة… وبلا خلاص منتظر يبرّر على نحو ارتجاعي الخراب العظيم. 


أزمنة متكسّرة 

احتمال الحرب المفتوحة يُلازم الحروب الاستئصالية كظلّها. «الحرب على الإرهاب»، ليست حرباً على دولة محدّدة، أو حتى فصيل إرهابي معيّن، بل حرب متواصلة على شعور ما (الإرهاب) ناتج عن أفعال تهدف إلى ترويع المدنيين. لا ينطبق عليها إذاً مفهوم وقف إطلاق النار التقليدي بين طرفين. وهي بذلك تشبه الحرب على المخدرات بأنها دائمة ومتواصلة (forever wars)، وإن اختلفت وتيرتها بين فترة وأخرى. يرفض الإسرائيليون إعلان وقف إطلاق النار في غزة، أو حتّى إعلاناً واضحاً عن أهدافهم وما الذي حُقِّق منها. اكتفوا فقط بإعلان غزة مؤخراً مسرحاً ثانوياً للعمليات العسكرية.

قد تنجح مقاومة القرى الأماميّة بصدّ التوغُّل البرّي للعدوّ، ولكن كيف تُلجم صواريخ المسيّرات وقصف الطائرات بعد سنة على التطبيع مع الإبادة في غزّة؟ 

الأرجح أنّ وقفاً تاماً لإطلاق النار يتطلّب جهداً دبلوماسياً عالمياً للضغط على إسرائيل لالزامها به. لكنّ زمن المفاوضات الدبلوماسية على الأثمان هو في الحقيقة أزمنة متعددة، لكلّ منها إيقاع وأصحاب ومصالح متضاربة. فالجنوب هو في الآن نفسه جبهة دفاعية عن لبنان ومسرح متقدّم للصراع الإسرائيلي-الإيراني وللمفاوضات الإيرانية-الأميركية. أمّا مبادرات الدولة اللبنانية وبعض أقطاب النظام، فهي الأضعف وتبقى معرَّضة لنسفها من تحت (الانشقاقات الأهلية- الحزبية) ولكسرها من فوق (القوى الإقليميّة والعالمية). 

وفي خضمّ كلّ تلك الدوائر وأزمنتها، قد يكون استهداف النازحين والمنتسبين إلى حزب الله على كامل الأراضي اللبنانيّة من أخطر الاستراتيجيات الإسرائيلية المستجدّة في هذه الحرب. فقد شهدت الأسابيع الأخيرة إضافة إسرائيل إلى استراتيجيّات الأرض المحروقة على حدودها، و«عقيدة الضاحية» في المعاقل الرئيسيّة لبيئة حزب الله الحاضنة- وهما استراتيجيّتان محكومتان بجغرافيا محدّدة- المطاردة المنظّمة والقنص البشري (manhunt) اللذين لا يلتزمان بأي حدود ويخرقان الجغرافيا التي شكّلت في حروب سابقة ملاذاً آمناً للنازحين (بعدران، بيروت، برجا، أيطو…) من مناطق الحريق الكبير. ومع كلّ خرق للحدود الجغرافية الآمنة، تحفر إسرائيل أعمق في الشروخ الأهليّة دائمة النضارة. فالأرض في منطق الاجتماع اللبناني ليست مجرّد سلعة تباع وتستثمر وتؤجَّر لأفراد، بل هي المدى الحيويّ لجسد الجماعة الأهلية وحدودها. بذلك تضيف إسرائيل زمناً إضافيّاً مرتبطاً باختبار صبر الأهل على بعضهم بعضاً. 

لا بدّ من العمل على استدراك الأمور قدر المستطاع من قبل كلّ القوى الحزبيّة ومؤسسات الدولة لكي لا تنجح إسرائيل بإسقاط هذا الحدّ أيضاً، فنعود رأساً من حروب المستعمرة الخياليّة الناتجة عن التقاء أشدّ عنصريّة المستوطنين رجعيّةً مع آخر ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة إلى حروبنا الصغيرة والإشكالات الفرديّة في نفس الخندق والفتنة الطائفية المتنقّلة. وإذا ما تمّ ذلك، وكلّ الرجاء ألا يحدث، تكون الذاكرة قد التحمت بالخيال، وانصهر التكرار بحروب القيامة لمستعمرة بلا حدود. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر