طلبت الحكومة أخيرًا المساعدة من صندوق النقد الدولي. ليس الأمر مستغربًا، فهو يخدم مصالح النظام الرأسمالي السارق لجهد الطبقات المسحوقة، ثمّ يجوّعها من خلال تخفيض ومنع الدعم عن الموارد الأساسيّة. وبالتالي، يبدو الصندوق والحكومة من «المسطرة» السياسيّة نفسها.
لا تتعدّى وظيفة الصندوق الحفاظ على نوع سطحيّ من استقرار الميزانيّة لمدّ السياسيّين الفاسدين بخطّ حياة، فيطول عمر الحكومات الفاسدة ويدمَّر اقتصاد البلد كلّيًا كما حصل في بلدان عديدة من الجنوب العالمي، والتي قايض حكّامها البقيّة الباقية من كفاف العيش للطبقة العاملة بمديونيّة جديدة بالدعوة الصريحة للتدخّل الإمبريالي في شؤون البلد.
ويبدو أنّ ذلك صار تقليدًا وطنيًّا قحًّا، إذ اشتغل الحريري الأب على لبنان باعتباره مشروعًا استثماريًّا. والواقع أنّ الأمر، وإن درّ عليه بالمداخيل، فقد جعل البلد عاجزًا عن الإنتاج لقيامه على الاقتصاد الرَّيْعي وقطاع الخدمات. وإن كان هذا النوع من الاستثمار واردًا في السابق، فإنّ التحوّلات التي شهدها اقتصاد بلدان الخليج جعل دور لبنان كحاضنة للرساميل الرَيعيّة مشروعًا فاشلاً.
لكنّ الحكومة لا تزال تعيش في الماضي، فتغوص في إرث الاقتصاد الرَّيْعي أكثر، مضيفةً الضرائب على القيمة المضافة، وراشقةً إيّانا بوعودٍ شعبويّة الطابع على غرار خفض رواتب الوزراء والنوّاب، وكأنّ تركيب حسّان دياب لعدّاده الخاص ودفع نفقته هو عمل بطولي.
تنوي الحكومة مراكمة دين الضّمان الاجتماعي وتخفيف كلفة الكهرباء عن الدولة، ممّا يعني زيادة كلفتها على المستهلك غالبًا، لأنّه من المستعصي تصديق أنّ الحكومة ستأتي بخطّة إنتاجيّة اليوم من حيث لا ندري. كما أنّها ستزيد رساميل المصارف، وعدا عن كون الأمر طلبًا من رياض سلامة، فهو لا يخدم، في المطلق، المودعين الصغار والمتوسّطين، بل يخفّف الخوف من إفلاس المصارف، أي يدعم أصحابها الذين ينتمي إليهم بالمناسبة عددٌ من نوّابنا ووزرائنا الجدد.
نحن نعيش حالةً مطوّلة من المراوحة بين محاولات السلطة تمرير خططها المحرِّرة لرساميل رجال الأعمال الفاسدين والتباكي على أنّنا لا نساعدها في إيجاد الحلول الاقتصاديّة للأزمة. لم يتحرّج سياسيّ واحد من طلب المساعدة للقضاء على الفساد من الشعب. لبسوا دور الملتحق بالثورة وتبنّوا الخطاب القائل إنّ «مطالبنا مشروعة».
يبدو أنّ المطالبة بالعدالة غير مشروعة، إن لم نأتِ للدولة بخطّة سياسيّة لنقوم بعملها. إن فشلنا بمدّها بممثّلين عن الثورة أو بمشروع سياسيّ بديل، فذلك دليل على تقاعسنا وجهلنا، وبالتالي انعدام كفاءتنا وشرعيّتنا للمطالبة بالعدالة. طبعًا، لا تخضع السلطة للمعايير نفسها.
ليس تقديمنا لخططٍ بديلة شرط استحقاق. ليس علينا أن نكون ضليعين/ات في الاقتصاد ونهادن السلطات بينما نبحث عن الحلول. ليس المقصود أنّ إيجاد الحلول الاقتصادية هو حكر على التكنوقراط، حكومةً وأفرادًا، فاحتراف مجال ما ليس عاملاً عاصماً عن الفساد الإداري، وليس دليلاً على النزاهة السياسية أو خدمة المصالح العامّة، أو على رؤية عدالة شاملة لا حقوق متفرّقة.
ن نلتزم بإيجاد الحلول ونُحشَر في زاوية من النضال تريدنا مستشارين للسلطة، صوريًّا، بينما لا تودّ السلطة سماعنا وليس المقام مقام حوار بالأساس. هي ثورة، وعدالة تنتزَع بالأسنان. ومهما حاولت السلطة تسفيهنا بالقول إنّنا لا نستطيع الاستعاضة عنها لانعدام مهاراتنا الاقتصادية «التكنوقراطية» أو خططنا البديلة. في واقع الأمر، حلّنا واضح وقد تداولتْه صيحات المتظاهرين منذ البداية: لن ندفع الضرائب لإنقاذ الاقتصاد، بل سنُسقِط الحكومة والـ51% والأملاك المخصخصة. الحلّ جاهز: الضرائب على الأرباح وعلى حكومة المصارف.