بعد يوم على احتفالات رأس السنة الميلادية في الساحات العامة في سوريا، نشرت وزارة التربية السورية قرار تعديلات أدخلت في المنهاج الدراسي، كان قد تمّ التصديق عليها قبل ثلاثة أيام. نشرت الوزارة قائمة تفيد بالمواضيع المعدّلة في يوم عطلة رسمية عبر صفحتها على شبكات التواصل الاجتماعية. تلت نشرَ هذه التعديلات موجةٌ كبيرة من الانتقادات، ليخرج وزير التربية والتعليم، نذير القادري، في مقابلة مع قناة «العربية» للحديث عن الجدل القائم، قائلًا: لا نرى في عملية التعديل استعجالاً بل ضرورة في هذه المرحلة، وما قمنا به هو تعديل طفيف وليس تغييراً للمناهج. ويضيف في جواب عن سؤال آخر كل ما نشرناه ووقّعنا عليه، عدّلناه، وذلك ضمن أعمال لجنة ضمّت أفراداً سابقين في حكومة النظام السابق بالتعاون مع أفراد من حكومة إدلب، بحسب تصريحه.
جاءت عملية التعديل جراحية بامتياز، وحاملة لمنهج معين. فلم تكن محصورة بالأمور المتعلّقة بنظام الأسد، بل تجاوزت الأمر لحذف مواقف وشخصيات تاريخية وأسس علمية، ليصل الأمر إلى استبدال عبارات مثل «الاستشهاد في سبيل الوطن» بـ«الاستشهاد في سبيل الله» وتوصية بحذف «القانون» من عبارة «الالتزام في الشرع والقانون»، مما حثّ مذيع العربية على سؤال القادري حول هذه النقطة ليجيب الأخير، بعدم وجود فرق بين القانون والشريعة طالما أنّ قانون سوريا يستند أصلاً على الشريعة الإسلامية. لم تتوقف التعديلات عند هذا الحدّ، بل انطوت أيضاً على حذف «وحدة التطور» من كتاب العلوم في الثالث الثانوي واستبدال «عطاء الطبيعة» بـ«عطاء الله».
تحوير إسلاميّ وآخر عثمانيّ
تعيدنا التعديلات على المناهج التعليمية إلى عمليات طمس التاريخ في المنطقة من قبل أنظمة قمعية تحتاج إلى تحويرات كهذه لدعم شرعيتها. ورغم أن الحكومة الجديدة منبثقة عن السيرورة الثورية، تشبه تعديلاتها سياسات الحكومة المصرية القائمة على تدمير الآثار المصرية، كشطب الحمام العثماني بمنطقة القيسارية بقنا وقناطر ابن طولون وغيرها من الآثار، وسياسات آل سعود في الجزيرة العربية، كهدم المواقع المقدسة الإسلامية والتاريخية في محيط مكة بذريعة زيادة راحة زوار بيت الحرام وهدم الشواهد التاريخية التي تناقض مزاعم آل سعود في السيطرة على الأجزاء الكبيرة في شبه الجزيرة.
وبما يتماشى مع هذه السياسات، قامت تعديلات وزارة التربية السورية على عملية حذف واسعة للتاريخ، بدءاً بحذف جميع الآلهة الآراميّة من كتاب التاريخ في الأول الثانوي الأدبي، على الرغم مما شكلته الجزيرة السورية قديماً كموطن للآراميين (الأخلامو) الذين فرضوا نفوذهم في دمشق، وامتدّ حتى بابل. ولم يقتصر الأمر على حذف «الإله بعل»، أحد أبرز الآلهة الآرامية، بل جاء أمر بحذف الإله ملقارت (سيد صور) ضمن فقرة الصبغ الأرجواني من كتاب التاريخ السابع الإعدادي، رغم أنّ معبد ملقارت قائم حتى الآن في عمريت الطرطوسية، وهو يعود إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. كما طال الحذف فقرة «مدونة حمورابي» من كتاب تاريخ الأول الثانوي الأدبي، والتي تُعَدّ من أقدم وأكمل الشرائع القانونية، وبعضها موجود إلى الآن في عدة متاحف، ومنها متحف اللوفر في باريس.
لم يتناول القادري هذه التعديلات، بل اكتفى بذكر الجدل حول صورة زنوبيا الموجودة في كتاب الديانة بالإشارة إلى عدم منطقية وجودها في منهج ديني إسلامي. وأكّد على أنها جزء من التاريخ السوري وعدم وجود أي خلاف في وجودها في كتب التاريخ. لكن يتعارض ذلك مع منطق باقي التعديلات في كتاب التاريخ، من حذف الآلهة الآرامية ومردوك وارتارغيس وغيرها، ووصف زنوبيا وخولة بنت الأزور بالشخصيات الخيالية. تقوم محاولات الإقصاء التاريخية هذه، والتي تمارس على أجيال ناشئة، بتشكيل وعي تاريخي وثقافي جديد يصبّ في بناء هوية سورية جديدة يعاد تحويرها بما يتناسب مع مقررات هيكلية السلطة الإسلامية الحالية والراعي الجديد.
فقد انتقلت هذه التعديلات الطفيفة إلى أمور جوهرية، تتناول المناضلة نازك العابد التي أُعدِمت من قبل الفرنسيين، كما طالت الشاعر جميل صدقي الزهاوي الذي جعل شعره وسيلة لفضح ظلم الاحتلال العثماني واستبداده داعياً إلى مناهضته ومقاومته، بالإضافة لحذف جملة إعدام قادة الحركة الوطنية في السادس من أيار عام 1916، وذلك في إشارة لموقف الحياد من انتهاكات الاحتلال العثماني. فكان جمال باشا قد أعدم القادة شفيق بك مؤيد العظم والشيخ عبد الحميد الزهراوي والأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وشكري بك العسلي وعبد الوهاب الإنكليزي ورفيق رزق سلوم ورشدي الشمعة، في ساحتي المرجة في دمشق والبرج في بيروت، بتهمة التخابر مع الاستخبارات الفرنسية والبريطانية للتخلص من الحكم العثماني. فبعد تطهير التاريخ من شخصيات أساسية، جاء تطويعه لمصلحة الراعي الإقليمي الجديد.
كان حزب البعث قد حوّر التاريخ من أجل تدعيم سيطرته، ومن هذا التحوير مجريات حرب تشرين وتفاصيل الحركة التصحيحية. فجاء النظام الجديد مع «تعديلاته» ليحوّر ما كان محوَّراً أصلاً. قد لا يكون هنالك موثوقية بالتفاصيل التاريخية عموماً، لكن يبقى هناك فواصل تاريخية في الذاكرة الجمعية قادرة على الفصل بين الاحتلال وعدمه.
الصراع على أسلمة المنهج وهشاشة القطاع التعليمي
ساد القطاع التعليمي السوري في حكم الأسد فساد في التعيينات التدريسية وفقر في الوسائل التعليمية. ثمّ جاءت تحديات عدة خلال السنوات الـ14 الماضية، من انقطاع الدراسة في الأماكن المنكوبة والتسرّب المدرسي لدى النازحين لسوء المعيشة والانقطاع المطوّل للكهرباء وعدم توافر المحروقات والخدمات المرافقة لاستمرار عملية التعليم. والآن تأتي هذه التعديلات لتطال قطاعاً يعاني من مشاكل بنيوية، لكي تفاقمها، منذرةً بمقاربات خطيرة حيال هذا القطاع الأساسي.
ما يحتاجه الطالب السوري حالياً هو عملية ترميم كاملة للبنية المعرفية، من مناهج ذات رؤية موضوعية مواكبة للعصر، إلى إعادة تأهيل خدمي لمرافق الجامعات والمدارس المدمرة، بالإضافة لإصلاح موارد الطاقة المرافقة لإتمام سوية الوسائل التعليمية. وعليه، لا يصبّ مضمون التعديلات الأخيرة في مصلحة ترميم الاحتياجات، بل ينزع إلى أسلمة المناهج ويتعدّى ذلك إلى اتساع هشاشة البنية التعليمية وابتعادها عن سوية التعليم العالمية.
في مسار شبيه لتخلخل العملية التدريسية، أعلن لبنان في العام الفائت عن توقف الحضور الفعلي في بعض الأماكن خوفاً من الاستهداف الإسرائيلي وتواجد النازحين في المدارس، كما توقّفت مدارس جنوب لبنان على وقع الغارات الإسرائيلية المتكررة. وصعب استمرار العملية التدريسية في قطاع غزة على الرغم من المحاولات الفردية العديدة. فشدّة الإبادة أوقفت مجريات الحياة وانتهى الحال بأكثر من 625 ألف طفل خارج المسار التعليمي بحسب الأونروا. وكأن هنالك مساراً يرتسم لإبعاد أجيال المنطقة ككل عن مسار التعليم العالمي، بضرب سوية البنية أو توقفها ليضعنا أمام أجيال كاملة تفتقر لوسائل البناء الحياتية المعاصرة.