لم يكن أول مولوتوف ألقي على واجهة مصرف عمل شغب. كان فتحاً نظريّاً.
في أواخر السنة الفائتة، بدأنا نسمع مفردات جديدة، كنّا قد سمعناها من قبل أو قرأنا عنها بلغات غريبة، ولكنّنا لم نعتَدْ استعمالها في يومياتنا اللبنانية: طبقات، أوليغارشية، نهب مالي، صندوق النقد الدولي... ببطء بدأت تتغيّر لغتنا السياسية التي كانت محتكرة من قبل بعناوين «سيادية» أو تحليلات «طائفية» أو مؤامرات «دولية». وفجأة، بات للمصارف لياليها.
شكّلت الثورة عملية إعادة اكتشاف للبعد المادي للسياسة، عملية ارتسمت معالمها عبر الصراعات في الشارع. ربّما لم تحقّق الثورة مكاسب سياسية بالمعنى الضيّق للكلمة. لكنّها أحدثت قطيعة مفهومية، فرضت على الجميع إعادة اكتشاف مجتمعنا وتضاريسه التي تمّ تسطيحها بالماضي. وممّا تمّ اختباره من جديد، البعد الاقتصادي للحياة السياسية وما يعنيه من إعادة هيكلة لخطوط اشتباكاتها.
كل عملية مصرفية اليوم هي عملية سرقة.
ربّما لم تكن الثورة وحدها ما أعاد هذا البعد الاجتماعي إلى الواجهة، ولكنّه جاء كنتاج للأزمة المعيشية والمالية التي نعيشها. بيد أن «الأزمة» مفهوم مبهم، هدفه تحوير الواقع. فنحن لا نعيش في ظل أزمة، ولكنّنا نتعرّض لأكبر عملية سطو في تاريخنا الحديث، عملية سطو تأخذ من كل عملية مصرفية فرصة لسلب المواطنين بعض ودائعهم.
لم تبدأ هذه العملية العام الفائت، وتاريخها يعود إلى بداية مرحلة ما بعد الحرب. فأخذت عملية النهب الموسّساتي هذه أشكالًا مختلفة على مدار العقود الأخيرة، من عملية الإعمار إلى الهندسات المالية مرورًا بسياسات تمويل الدولة، ووصولًا إلى الإجراءات الحالية للخروج من «الأزمة». وهذه الإجراءات ليست مجرّد عملية تحميل عبء «الأزمة» على ظهر الشعب اللبناني، إنّها محاولة لاستغلالها وإعادة إنتاج عملية النهب.
إنه نظام احتلال وابتزاز مالي.
يقوم سطو المصارف على عملية ابتزازية، تشترط بها المصارف حصول المودعين على جزء من أموالهم بالقبول بنسبة متزايدة من النهب. لكنّ الابتزاز لم يبدأ مع الأزمة الحالية، بل قد يكون محرّك رأسماليتنا منذ خروجنا من الحرب الأهلية. فقام «مشروع الإعمار» ومعه صناديق الفساد على «ابتزاز الحرب الأهلية»: إمّا القبول بهذا المشروع وزواريب الفساد أو العودة إلى الحرب. وقامت السياسات والهندسات المالية على «ابتزاز الاستقرار المالي»: إما القبول بأرباح المصارف المتزايدة أو الانهيار المالي. والاجراءات الحالية ليست إلّا نسخة جديدة عن الابتزاز نفسه: إما القبول بإنقاذ القطاع المصرفي من خلال نهبه للمودعين أو الانهيار الاقتصادي التام.
الجميع كان شريكًا في عملية الابتزاز هذه، من المصارف إلى السياسيين، وصولًا للمنظمات الدولية التي شاركت في تطبيع هذه العملية. الجميع كان له نسخته الخاصة من الابتزاز، مفادها أن بقاء هذا النظام أفضل من سقوطه، وهو سقوط سينتج حربًا أو تهجيرًا أو فقرًا أو عدم استقرار أو لاجئين أو… كان ابتزازاً ابتدع التهديدات ليستمر بنهبه.
لا يأتي الاحتلال مرتديًا بزّةً عسكرية فقط. فهو يختبئ أيضًا وراء ربطات عنق.
شكّلت ثلاثية «مصرف لبنان– جمعية المصارف– المصارف» نقطة ارتكاز هذا التحوّل النظري الذي أدخلته الثورة. وتحوّلت هذه الثلاثية من معبد النجاح اللبناني ولقب احترام ثقافي إلى عرين للصوص تافهين، لم يبقَ لهم إلّا حفنة من إعلاميّي البلاط ليحاولوا تنظيف صورتهم. فمن إنجازات الثورة أنّها حوّلت المصرفيّين في المخيّلة العامة من مهنة محترمة إلى تهمة وشتيمة، أو إلى أشباه جيوش الاحتلال. ولم يبقَ بعد اليوم إلّا طردهم من المدينة، من شوارعها وحفلاتها وإعلامها.
لم يسقط الابتزاز، بل أفلس. فلم يعد هناك ما تبقّى ليبتزّونا به.
وفي ليالي الأعياد القادمة، لم يبقَ لنا إلّا المولوتوف لندفئ به شوارع المدينة الباردة.