عندما تنتهي الحرب، سأفعل كذا وكذا: إنّها فكرة تراودك عدّة مرّات يوميّاً. ما يُشير إليه تعبير «كذا وكذا» ليس مهمّاً. فهو يتبدّل باستمرار. قد يكون الذهاب إلى السينما. أو السفر للسياحة. أو تناول الطعام في مطعم في الجبل. أو البحث عن وظيفة جديدة. أو ربّما الزواج. أو حتى إنجاب طفل. الكذا والكذا عرضيٌّ إلى حدّ كبير، إذ لا يكفّ محتواه عن التغيّر، فيما تبقى بنية الجملة أو الفكرة هي إيّاها: عندما تنتهي الحرب، سأفعل كذا وكذا.
ما تدلّ عليه هذه الجملة هو أنّه ثمّة أمور كثيرة تُرجِئُها. ترجئها إلى ما بعد الحرب. أمورٌ كثيرةٌ، سواء كانت تافهة أم مصيريّة، ترغب في فعلها، لكنّك تعلم أنّ الوقت ليس مناسباً الآن. لأنّ هناك حرباً. لا يعني هذا أنّ الحرب تمنعك بالضرورة من فعل الكذا والكذا. قد تمنعك أحياناً، لكن ليس دوماً. فأنت تستطيع الآن الذهاب إلى السينما، مثلاً. أو تناول الطعام في مطعم في الجبل. لكنّك ترجئ ذلك. ليس لعجزك عن فعله، بل لأنّك تشعر بأنّ الوقت ليس مناسباً. أي أنّك لا ترغب حقّاً، الآن، في الذهاب إلى السينما أو إنجاب طفل، بل ترغب في ذلك على نحو مجرّد، إذا صحّ التعبير: إنّه شيء ستودّ فعله لو كنت في زمن آخر – هذا ما تتخيّله. أي أنّها رغبة لا تختبرها، بل تتخيّل أنّك ستختبرها لو كنت في زمن آخر. إنّها رغبة مُتخيَّلة. مُتخيَّلة ومُرجَأة.
وإذا كانت الرغبات نفسها قد أصبحت مُرجأةً، فهذا يعني أنّ الإرجاء قد طال كلّ شيء تقريباً. وأنّ كلّ شيء تقريباً صار مؤقّتاً. أفعالك. روتين حياتك. مشاريعك. حتّى أفكارك. هذا كلّه بات مدموغاً بدمغة المؤقت. وحتّى لو كانت بعض أفعالك ومشاريعك وأفكارك مُطابقةً لما كانت عليه قبل الحرب، فإنّها، هي أيضاً، قد دُمغت بدمغة المؤقّت. ذاك أنّك تعيش في حالةٍ – الحرب – تعتبرها استثناءً، حالةٍ تحيل كلّ شيء تقريباً إلى استثناء. وكون هذه الحالة استثناءً يُطمئنك كثيراً. إذ ثمّة رغبةٌ ليست مُرجأةً في هذا الزمن المؤقّت، هذا الزمن الذي يطال فيه الإرجاءُ كلّ شيء تقريباً: إنّها الرغبة في أن يكون هذا كلّه الذي تعيشه مؤقّتاً بالفعل.
لذلك تستميت في بحثك عن أدلّة أو إشارات تُرسِّخ قناعتَك بأنّ هذا الزمن الذي تعيش فيه إنّما هو مؤقّت. على سبيل المثال، تُتابِع باهتمام محموم تصريحات مسؤولين لبنانيين وأميركيين وإسرائيليين وإيرانيين وغيرهم، تصريحات عن المعارك والحرب والمفاوضات... إلخ، تُتابِعها كمهووس بقراءة الأبراج، بحثاً عن إشارات، صريحة أو خفيّة، تبشِّر بقرب انتهاء الحرب. أو تقرأ ما يُدبِّجه المحلّلون السياسيون، وعلى الرغم من أنّك تحتقر أغلبهم، وتعتبر أنّ مهنتهم إنمّا هي أشبه بالتنجيم، فإنّك تريدهم بكلّ جوارحك أن يخبروك أنّ الأمور مؤقّتةً ولن تطول. ولكن حتّى من دون أن تقرأ أو تتابع أيّ شيء، فإنّك تعثر على إشارات وأدلّة في داخلك، إذ تشعر بأنّك أصبحت كائناً مُرجَأً بالكامل، كائناً مؤقّتاً لا يمكنه الاستمرار على هذه الحال لوقت طويل. كيانك يقول لك إنّ الحرب ستنتهي غداً أو بعد غدٍ، أو بعد شهر أو شهرَين.
إلّا أنّك، في الآن عينه، تشعر بأنّ الأمور قد تطول. بأنّه ليس مستحيلاً أن تستمرّ الحرب لسنة من الزمن، أو لسنتين أو أكثر. لا بل إنّك تتصرّف أحياناً وفقاً لذلك. تُخطّط للهجرة، مثلاً. أو تبحث عن شقّة جديدة. أو تقرّر أن تتزوّج أو أن تنجب طفلاً – الآن، في الحرب. ذاك أنّك تعلم أنّها قد تكون حالة دائمةً، لا مؤقّتة. حالةً «عاديّة»، لا استثناءً. تعلم أنّها قد تكون حالةً دائمةً، لكنّك مقتنعٌ في الآن عينه بأنّها مؤقّتة. تحمل هاتَين القناعتَين في آنٍ معاً، والغريب أنّهما تتجاوران من دون أن تتحاربا، فلا تنفي إحداهما الأخرى. أي أنّك، في الآن عينه، تعيش في المؤقّت والدائم. تعيش في زمنَين، أو في زمنٍ واحد يُناقض ذاته، زمنٍ سينتهي غداً وسيستمرّ إلى الأبد. ولعلّ هذا هو تحديداً زمن الحرب. زمن الإرجاء والاستثناء، وزمن الاعتياد على ما نظنّ أنّه لا يمكن الاعتياد عليه.