البيوغرافيا من دون خجل
حين عُرض فيلم محمد سويد «تانغو الأمل» للمرّة الأولى عام 1997، تلقّى المخرج انتقادات من صحافيين ونقّاد ممن اعتبروا أن الأعمال البيوغرافية تستلزم أن يكون المخرج إما متوفٍّ وإمّا منتمٍ إلى نوع من الفنانين العظماء لكي يستحق إخبار سيرته. أمّا أن يظهر مخرج صاعد هكذا أمام الكاميرا معلناً عن رغباته وأحلامه، فلم يكن امراً مستحسناً أو متوقّعاً.
كان الغالب خلال تلك الحقبة أن يختبئ صانع العمل خلف موضوعه، وهو ما حصل مع يوسف شاهين مثلاً الذي بقي مستتراً خلف شخصية يحيى شكري في «اسكندرية ليه» عام 1978، الفيلم الذي فتح الباب للمخرجين العرب كي يخبروا قصصهم الشخصية في السينما، وفق سويد الذي يضيف أيضا «أحلام المدينة» (1984) لمحمد ملص كنموذج أحدث نسبياً.
قرّر سويد أن يكسر النمط، وأن يقول كل ما يمكن أن يقال بدون خجل، في مسار سيكمله حتى آخر أفلامه «يوم بلا غد» (The Insomnia of A Serial Dreamer) الذي عرض ضمن الدورة الحادية عشرة من مهرجان «أيام بيروت السينمائية» قبل أيام.
يأخذنا سويد في «يوم بلا غد» (170 دقيقة) في زيارة إلى عقله وقلبه، حيث يلتقي بالأصدقاء لإخبار قصص تساعد على النوم، في خليط يجمع ما بين الذاتية الشاعرية والهموم العامة التي أصبحت النمط المعتاد عند المخرج.
ينتقل الفيلم بين أوجه سويد المتعدّدة، من الجانب الرومانسي الذي تشرّبه من السينما المصرية، إلى الجانب النفسي الذي يناقشه بشكل مباشر مع المحلّلة النفسية، وصولاً إلى الجانب البصري المهووس بالصورة وشؤونها. كما يقدّم أجزاء من اعترافات حول العلاقة الحميمية بالمرأة كموضوع جمالي- جنسي يتبنى نظرتها الفلسفية إلى العالم.
طبعاً يختلف زمن «يوم بلا غد» الراهن كلياً عن زمن «تانغو الأمل» قبل خمسة وعشرين عاماً. الذاتية التي كانت شبه محرّمة في الماضي، صارت موضة سائدة اليوم، لديها وصفة ونموذج متكرّر. تأخذ هذه الذاتية حيزاً كبيراً من الإنتاج الوثائقي السنوي بتشجيع من صناديق الدعم الغربية والعربية، وبغطاء إيديولوجي عنوانه الفردانية.
يُذكر هنا أن هذه الذاتية وجدت طريقها حتى إلى الأفلام الوثائقية «الموضوعية» التي بات مخرجوها مطالَبين بإظهار مواقفهم الشخصية تجاه ما يتحدثون عنه. وينطبق هذا أيضا على الكتابة الصحفية التي لطالما واجه العاملون فيها معارضة من قبل المحرّرين عند استعمال صيغة المتكلّم، قبل أن تتغير الحال اليوم، وتصبح نصوص الاعترافات الذاتية ضيفاً دائماً على الصحف والمواقع.
لكن مع أن سويد هو من روّاد الذاتية ومن أوّل مَن غامر بالانكشاف أمام الكاميرا في لبنان، فإنّ أعماله تبقى بريئة من الموجة التي أتت لاحقاً، أي المنشغلة بنفسها والمنفصلة عن العالم. فالذاتية بالنسبة له أقرب إلى اللغة التي تعبّر بطريقة أمينة عن أسلوب صاحبها ونمط تفكيره: المخرج الشاعر الذي يصيغ بالصور رؤيته الخاصة للعالم.
صالات السينما والحرب
بدأ محمد سويد عمله في المجال السينمائي كناقد صحفي خلال الثمانينات. تعاون حينها مع عدد من الصحف، منها «السفير» و«النهار»، حيث قدّم قراءات مبتكرة للأفلام تحاول البحث عن معاني موازية لفهمها. من إيجابيات بيروت خلال تلك الحقبة، أنه بالرغم من الحرب، وُجدت صالات تعرض كلّ أنواع الأفلام التجارية الرخيصة، والجادة والمستقلة التي لاقت صالات مخصصة لها.
كانت هذه الفضاءات الملجأ الوحيد الذي ساعد سويد على اكتساب ثقافة واسعة ستدفعه لإنهاء كتابه الأول عن سينما الحرب اللبنانية «السينما المؤجّلة». خصص سويد لاحقاً كتاباً عن صالات بيروت السينمائية تحت عنوان «يا فؤادي».
لم يمضِ وقت طويل قبل أن يقرّر الناقد الشاب الانتقال إلى المشاركة في صناعة الأفلام كمساعد لمخرجين جعلتهم الحرب نجوماً. وحدهم هؤلاء كانوا قادرين على تأمين تمويل أجنبي لمشاريعهم، بينما اضطر المخرجون الصاعدون لاستخدام طرق ملتوية، من بينها اللجوء إلى كاميرات الفيديو الأرخص ثمناً، وهو ما حصل في فيلم سويد الأول «غياب» (1990).
مع انتهاء الحرب، عاد جزء كبير من الفنانين الشباب الذين أنهوا تعليمهم في الخارج إلى بيروت. مع هؤلاء، بدأت بوادر موجة فنية جديدة مع فضاءات فنية مثل «مسرح بيروت» و«أشكال ألوان» و«مهرجان أيلول». أعاد فنانو هذه الأمكنة التفكير بمعنى الفن السياسي، وفي العلاقة مع أدوات الإنتاج والمجتمع والجمهور. وصلت أصداء هذه الحركة الفنية إلى السينما حيث قدّمت مجموعة مخرجين واعدين أعمالا أدّت إلى حصول قطيعة مع الجيل السابق، من بينهم غسان سلهب، ووليد رعد، ومحمود حجيج، وميشال كمون وجوانا حجي توما، وخليل جريج، وآخرون.
في الوقت نفسه، استطاع آخرون اختراق عوالم الشاشة الصغيرة، تحديداً «تلفزيون لبنان» (محمد سويد)، وتلفزيون «المستقبل» (أكرم الزعتري وربيع مروة). ربما هي المرة الأخيرة في تاريخ التلفزيون اللبناني التي يحصل فيها اختراق أو «قرصنة» (وفق تعبير أكرم الزعتري) للذوق العام، من خلال الحوار الذي حصل بين الفن المعاصر والفن الجماهيري.
هكذا عبر محمد سويد إلى الضفة الأخرى عوضاً عن البقاء في عوالم السينما البديلة والنخبوية، حيث بدأ بصناعة أفلام تخاطب فئات جديدة من المجتمع، لطالما رآها المخرجون إما من خلال منظار الأيديولوجيا الثورية أو عبر ثنائيات الضحية والإكزوتيكية.
وصف أحد الفنانين يومها تجربة سويد كمزيج بين شعبية زياد الرحباني الكوميدية وتجريبية جان لوك غودار، علماً أن سويد لم يتردّد في اختيار افكار واساليب عمل غير تقليدية في التلفزيون ستشكل أحيانا صدمة للجمهور.
من أشهر أفلام تلك الحقبة «سينما الفؤاد» الذي أنتجه ضمن سلسلة أفلام وثائقية تحت عنوان «أنا في الكاميليا» عام 1994 (في نفس الفترة، أنتج سويد سلسلة أخرى بعنوان «أنا لك على طول»). يخبر الفيلم قصة فتاة عابرة جنسياً عاشت في وسط بيروت الذي كان أيضاً منطقة عبور بين مدينتين ومجتمعين. منذ عرضه للمرة الأولى، أصبح الفيلم Cult سينمائياً أقوى من الزمن حيث لا يزال حتى اليوم يعرض دورياً في صالات حول العالم.
نهاية مرحلة
عام 1996، ترك سويد «تلفزيون لبنان» وبدأ التحضير لصناعة ثلاثيته الشهيرة «تانغو الأمل»، «عندما يأتي المساء» و«حرب أهلية» التي أصبحت تعرّفه كمخرج اليوم. يتبع «عندما يأتي المساء» بطريقة ميلانكولية يوميات ما بعد الهزيمة لأفراد كانوا جزءاً من الكتيبة الطلابية في «حركة فتح» (كان سويد جزءاً منها خلال السبعينات). أما «حرب أهلية»، فهو تحقيق في موت صديق المخرج محمد دعيبس الذي اختفى لأشهر قبل أن يُعثر على جثته متحللة في بناية مهجورة. يركب الفيلم puzzle موت المصور، نكتشف من خلالها العلاقة المأزومة بين الجسد ورغباته المكبوتة من ناحية، والضغط النفسي الذي يعاني منه اللبنانيون بعد الحرب الأهلية من ناحية أخرى.
عُرضت هذه الأفلام في مناسبات فنية في بيروت، من بينها «مهرجان أيلول» وهو المهرجان الأوّل المخصص للفن المعاصر في المدينة. ضمّ حينها أعمالاً تنتمي للرقص المعاصر والتجهيز والفيديو والفن الأدائي، وهي جميعها أنماط تعيد الاعتبار للبديهيّ والخام وتشجع على استخدام المواد الجاهزة واليومية في محاولة لتعرية تأثيرات الحداثة وإيديولوجيتها على الثقافة والفنون.
ربما بسبب مشاركة سويد ضمن هذه الموجة (دعم «أيلول» إنتاج أفلام الفيديو أيضا بتمويل صغير)، بدأ النقاد يصنفون أفلامه ضمن خانة الفيديو، كإشارة ليس فقط لنوعية الكاميرا التي يصوّر بها، بل للجماليات والعناصر التي تعرّف الفيديو كنمط قائم بذاته تتراجع فيه أهمية الجماليات البصرية والحبكة، فيما يختزل المونتاج إلى أداة تخدم نمط السرد المينيمالي وغير التشويقي. بسبب هذا التصنيف، بدأت بعض المراكز الفنية والمتاحف المهتمة بالفن المعاصر تطلب أعمال المخرج للمشاركة في معارضها أو ندواتها، ما أدى إلى الاعتراف النقدي بأعماله من قبل فئات جديدة.
في فيلمه الأخير «يوم بلا غد»، قدّم سويد كما في أفلامه السابقة صورة سينمائية خام لا تكترث بتجميل العالم أو إضافة تأثيرات ضوئية، كما تخلى في بعض الأمكنة عن سلطة المونتاج على كلام الشخصيات لتصل بعض المشاهد لأكثر من عشرين دقيقة بدون انقطاع أو Jump Cut (يشبّه سويد الزمن الفيلمي بالنهر الذي يمكن أن يقطع حجرٌ جريانه). هذا التقسيم يجعل من الفيلم كما لو أنه أفلام متعدّدة داخل فيلم واحد، حيث يتناول كل فيلم موضوعاً من زاوية جديدة.
من النادر في السينما أو التلفزيون أن نرى لقطات بهذا الطول بدون إدخال insert أو تغيير في موقع الكاميرا وطريقة جلوس الممثل، ما يُظهر أن سويد لا يزال يحافظ على ميله التمرّدي المعتاد، وأنّ وضعه في خانة الفيديو ليس خاطئاً تماماً. يذكر هنا أن إيقاع الحكايات المتتالي وتعويل سويد على قدرة السرد لخلق صور بصرية متخيلة سهّلا مهمة تطويل المشاهد وتبطيء إيقاع المونتاج بدون أن يؤدي إلى انزعاج المشاهدين.
من ناحية أخرى، لا تزال أفلام سويد في قوالبها العامة التي تعتمد على المقابلات تسمح بتصنيفه كمخرج أفلام وثائقية، أو تحديداً Essay وثائقي، وهو نمط يعرف بالمزج بين الشعر والمونولوغ وصولاً إلى الفنون الأدائية والصوتية التي يشكل المخرج صلة الوصل بينها. لهذا السبب، ما زالت مهرجانات الأفلام الوثائقية تدعوه لتقديم عروض، ولو أن كمية الدعوات لا تزال خجولة مقارنةً بمخرجين ذوي تجربة أقصر، بسبب ضياع هوية أعماله، وبالتالي عدم قدرة قنوات التوزيع على تبنيها.
في النهاية، يمكن رؤية «يوم بلا غد» كأنه تصفية حسابات ونقطة آخر السطر بعد مرحلة بدأت مع الثلاثية كان فيها كل شيء ممكناً سينمائياً. في الوقت نفسه، يُظهر الفيلم بدايةً لمرحلة جديدة تأتي كاستراحة مقاتل قرر العودة إلى الأصل كرد فعل على التطور البصري والتخمة التمرّدية التي أوصلت الفن المعاصر إلى باب مغلق.