لن تكون الهدنة التي بدأت أمس الجمعة خاتمة العدوان. هكذا أصرّ رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو على الإعلان. إنّها فرصة للاستعداد لمواصلة القتال المرتبط بهدفين، بحسب ما ذكّر نتنياهو أوّل من أمس: القضاء على حماس وإعادة جميع المخطوفين. وما إعادة التذكير بالهدفين في هذه المرحلة من الحرب، أي بعد شهر ونصف من القتال، إلا تعنّت غريب من جانب القيادة السياسيّة في إسرائيل. وثمّة داخل إسرائيل نفسها من يطرح اليوم أسئلة حول جديّة التصوّرات التي تقدّمها الحكومة لهذه الحرب، أو حول حقيقة امتلاكها تصوّرًا ما من الأساس.
فهل تملك إسرائيل فعلًا القدرة والترف لتحقيق الأهداف المعلنة، وما يستلزمه تحقيق هذه الأهداف من وقت؟ وإذا كان الجواب لا، كما تؤكّد العديد من الشواهد العسكريّة الميدانيّة والدبلوماسيّة والاقتصاديّة، فكيف يمكن تفسير هذا السقف المرتفع في أهداف نتنياهو؟ وفي جميع الحالات، من سيدفع ثمن هذا السقف في المستقبل؟
عن الهدف وواقعيّة الهدف
بعد أكثر من شهر ونصف من القتال الضاري، لم يتمكّن جيش الاحتلال من الانتشار في أكثر من 43% من مساحة شمال غزّة، بما فيها المساحات المفتوحة التي سيطر عليها الإسرائيليون بنيران المسيّرات والطائرات الحربيّة قبل بدء الحرب. والحديث عن الانتشار هنا، يختلف حتمًا عن خريطة السيطرة الفعليّة، بدليل استمرار توثيق المقاومة الفلسطينيّة لعمليّات قتاليّة تجري في مناطق انتشرت فيها الدبّابات الإسرائيليّة، مثل جحر الديك وبيت حانون ومخيّم الشاطئ والتوام ومحيط مستشفى الرنتيسي.
في خلاصة الأمر، ما زال ما يزيد عن ثلاثة أرباع قطاع غزّة خارج حدود انتشار القوّات الإسرائيليّة. ويمكن لهذه النسبة أن ترتفع حتمًا إذا ما احتسبنا حصرًا المساحات المأهولة التي تمثّل العقبة الأساسيّة أمام التوغّل الإسرائيلي. ما يجري يؤكّد التحذيرات التي وجّهها قبل أسبوعين رئيس هيئة الأركان الأميركيّة المشتركة تشارلز براون للإسرائيليين، والتي لمّح فيها إلى عدم واقعيّة هدف «القضاء على حماس» المعلن من قبل نتنياهو. وفي التصريح نفسه، صارح براون حلفاءه الإسرائيليين بخطورة طول أمد الحرب، الذي قد يفرضه تحقيق مثل هذا الهدف الكبير.
ذلك أنّ عمليّةً بريّة كاملة تصل إلى حدود إنهاء حكم حماس، وتحرير الأسرى بالقوّة، قد تستلزم أكثر من سنة، كما اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي في الأسبوع الأوّل من هذا الشهر، حتّى قبل أن يواجه جيشه هذه المقاومة الشرسة في أماكن انتشاره.
وتحقيق هذا الهدف، حتّى إذا افترضنا أن إسرائيل تمتلك القدرة وترف الوقت المديد، سيفترض أيضًا أن تتمكن إسرائيل من متابعة عمليّاتها في الجزء الجنوبي من القطاع، في ظل اكتظاظه باللاجئين النازحين من جنوبه. وهذا الافتراض تعارضه حقائق عديدة، مثل عدم وجود أي مساحات بديلة يمكن أن تستقبل النزوح الذي يمكن أن ينتج عن معارك محتملة في جنوب القطاع، ومعارضة مصر لاستقبال أي نازحين من قطاع غزّة.
حسابات الاقتصاد تضغط
هناك الكثير من العوامل التي ستحول دون صمود إسرائيل في عمليّة بريّة طويلة يمكن أن تحقق هذه الأهداف «الطموحة». وتبرز في طليعة هذه العوامل الضغوط التي يتعرّض لها الاقتصاد الإسرائيلي اليوم، نتيجة تداعيات العدوان الراهن.
أوّل من أمس، أشار تقرير شركة الاستشارات الماليّة الإسرائيليّة «ليدر كابيتال ماركتس» إلى أن الكلفة التي تكبّدتها إسرائيل جرّاء حربها الراهنة ستصل إلى حدود 48 مليار دولار أميركي، وهو ما يقارب 10% من إجمالي حجم الاقتصاد الإسرائيلي. وأشار هذا التقرير بوضوح إلى حتميّة لجوء الحكومة الإسرائيليّة إلى الاقتراض مجددًا، لتجاوز الأزمة التي ستنتج عن تراجع الواردات الضريبيّة في ظل الأزمة الاقتصاديّة.
أمام هذا الواقع، ليس تفصيلًا أن يسمع العالم قبل أسبوع أن إسرائيل لجأت إلى «اكتتابات خاصّة»، ومن خارج عمليّات السوق المفتوحة، لتتمكن من اقتراض 6 مليار دولار أميركي، في سبيل تغطية العجز في الميزانيّة العامّة. ما يعنيه ذلك هو أنّ الحكومة الإسرائيليّة باتت في وضعيّة ترغمها على إجراءات الاقتراض المستعجل الذي لا يعطيها ترف إصدار سندات طبيعيّة يمكن بيعها في الأسواق، وأنّ مخاطر المرحلة الراهنة لم تعد تسمح لإسرائيل بإصدار المزيد من السندات الدوليّة، وبيعها بأسعار جيّدة من دون تحمّل مخاطر وازنة.
بطبيعة الحال، يرتبط كل هذا الواقع بتأثيرات الحرب على الميزانيّة العامّة الإسرائيليّة التي تضاعف عجزها بنحو 5 مرّات بين أيلول وتشرين الأوّل الماضيين، ليصل خلال تشرين الأوّل وحده إلى أكثر من 6.12 مليار دولار. ولا يرتبط هذا العجز بتراجع الواردات الضريبيّة وحسب، بل أيضًا بتكاليف الأعمال الحربيّة والتعويضات للمهجّرين من مناطق غلاف غزّة والشمال، بالإضافة إلى رواتب الاحتياط الذين قام الجيش بتعبئتهم منذ 7 تشرين الأوّل الماضي.
بالتأكيد، ستتمكّن إسرائيل على المدى القصير جدًا من تغطية هذا العجز بزيادة الدين. لكنّ الإفراط باستعمال هذه الأداة سيعني تفاقم المديونيّة، ومن ثم تكبيد إسرائيل تداعيات تراجع تصنيفها الإئتماني الذي وضعته أساسًا وكالتا «ستاندرد آند بورز» و«فيتش» تحت المراقبة السلبيّة.
هذا المشهد هو ما يفسّر إشارة صحيفة واشنطن بوست، نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين، بأنّ الاقتصاد الإسرائيلي قد يصل إلى مرحلة الانهيار، إذا استمرّ الهجوم البرّي لأكثر من ثلاثة أشهر. مع الإشارة إلى أنّ المسؤولين أنفسهم أفادوا بعدم امتلاك إسرائيل حتّى الآن أيّ تصوّر واضح عن «اليوم التالي في غزّة»، أي عن ما بعد الحرب.
سرّ السقف المرتفع وغير الواقعيّ
إذًا، وبحسب المؤشّرات الماليّة والاقتصاديّة، لا تملك إسرائيل ترف الوقت المديد الذي يحتاجه الهدف المُعلن، وهو القضاء على حماس. كذلك تدلّ المؤشّرات السياسيّة على تزايد الضغوط الخارجيّة والدوليّة على الحكومة الإسرائيليّة، بعدما بات الاستياء الشعبي في الدول الغربيّة عاملًا مؤثّرًا على حسابات النخب السياسيّة هناك. وهذا ما انعكس على مواقف بعض الدول الأوروبيّة التي بدأت بخفض سقف دعمها للعمليّة البريّة الإسرائيليّة.
لكنّ بعض التحليلات تفسّر سقف أهداف الحكومة الإسرائيليّة المرتفع، بالرغم من عدم واقعيّة هذه الأهداف. فكما هو معلوم، ستتجه الغالبيّة الساحقة من القيادات السياسيّة والعسكريّة التي استلمت زمام المسؤوليّة قبل الحرب إلى تحقيقات طويلة، لتحمّل تبعات التقصير في تقييم الوضع على حدود قطاع غزّة. ومن المتوقّع طبعًا أن تؤدّي هذه التحقيقات إلى الإطاحة برؤوس كبيرة داخل الحكومة والجيش الإسرائيليين، تمامًا كما حصل في حروب وإخفاقات إسرائيليّة سابقة. وفقاً لهذه التحليلات، لا تملك القيادتان العسكريّة والسياسيّة المصلحة في وقف الحرب بالسرعة القصوى، قبل تحقيق أكثر ما يمكن تحقيقه من «إنجازات» ميدانيّة أمام الرأي العام الإسرائيلي، ولو تطلّب الأمر تحديد أهداف ضبابيّة وعموميّة قد يصعب تحقيقها بالفعل، لتبرير استمرار الحرب.
«الإنجازات» التي يتمّ استعراضها اليوم لم ترقَ حتّى الآن لتحقيق أي هدف عسكري يغيّر من قواعد اللعبة على المدى البعيد، ما دامت المقاومة لم تخسر قدرتها على تحضير العمليّات العسكريّة، بما فيها إطلاق الصواريخ. تقتصر «الإنجازات» حتّى اللحظة على الانتقام والعقاب الجماعي، تمامًا كما تدلّ عليه الحرب التي شنّها جيش الاحتلال على المستشفيات قبل الموافقة على الهدنة.