حسمت الحكومة قرارها: ستَهدم ما بقيَ من أهراءات مرفأ بيروت.
حسمت قرارها لدرجة أنّها لم تطلب حتّى دراسةً لتقييم الوضع الإنشائي للأهراءات، بل اختارت القفز مباشرةً إلى طلب دراسة الهدم. واختارت أن تحصر طلبها بدراسة الهدم، من دون أن تطلب بالمقابل دراسةً للتدعيم، أقلّه لتبني ما يكفي من الآراء للمقارنة.
من هذا التوجّه فقط، نستنتج أنّ الحكومة لا تنتظر أي دراسة لتبني عليها الرأي، وأنّها لا تريد من الدراسة إلّا «الشرعية»، عبر إعطاء طابعٍ علمي لقرار الهدم. هذا ما يُسمّى بتطويع العلم للسياسة.
لنقفز مباشرةً إلى الخلاصة:
تحتلّ الأهراءات وحدها (من دون برج الماكينات) مساحة 4,250 متراً مربّعاً. هي 4,250 متراً في المرفأ، في مرفأ العاصمة، على الواجهة البحرية، أي، في أغلى المناطق العقارية في لبنان.
هذه المعلومة وحدها كافية لفهم حوافز استعجال الحكومة في الهدم.
لكن كما يُقال: إلحق الكذّاب على باب الدار.
في ما يلي، سنلحق الحكومة على باب الدراسة التي تتذرّع بها لهدم الأهراءات، وهي دراسة شركة خطيب وعلمي الاستشارية الصادرة بتاريخ 24 آذار 2022، تحت عنوان «إستقرار أهراءات الحبوب في مرفأ بيروت»، معطوفةً على دراسة د. يحيى تمساح، ودراسة خطيب وعلمي الأولى، وتقرير المهندس الفرنسي إيمانويل دوران.
1. عن مصطلح «مبنى» الأهراءات
البدعة الحكوميّة:
تقول رواية الحكومة أنّ «الأهراءات آيلة للسقوط»، وأنّ «الأهراءات تشكّل خطراً»، وأنّ الأهراءات كذا وكذا وكذا.
التدقيق:
ولا أي دراسة تتعامل مع «الأهراءات» كأنّها شقفة «أهراءات» واحدة، كأنّها كلٌّ واحد. بل تعمد الدراسات، كما يعمد الواقع الإنشائي، إلى تجزيء الأهراءات أقلّه إلى 3 أجزاء منفصلة: الجزء الشمالي حيث الضرر الأكبر، والجزء الجنوبي المستقرّ حالياً، وبرج الماكينات المدمّر بالكامل.
فلنلاحظ كيف تجزّئ دراسة خطيب وعلمي المبنى: «تركَّز الضرر في الجهة الشرقيّة، وطال بشكلٍ أساسي الصفّ الأوّل والصف الثاني […] الجزء الشمالي من الأهراءات يتحرّك، بينما الجزء الجنوبي منها ثابت». ثم تقول الحكومة: «الأهراءات».
عبر التعاطي مع الأهراءات كوحدةٍ واحدة، تريد الحكومة أن تخفي التفصيل القائل بأنّ نصف ما بقيَ منها قد توقّف عن الميلان، ولا يشكّل أي خطر، وهو قابل للتدعيم بكلفة وآلية بسيطة. حتّى الجزء الشمالي قابل للتدعيم.
2. السقوط والهبوط والانهيار والخطر
البدعة الحكوميّة:
تستعجل الحكومة الهدم بذريعة أنّ الأهراءات «آيلة للسقوط». يقول وزير الاقتصاد أمين سلام «في خطورة إنّه هَي الأهراءات توقع […] الأهراءات آيلة للسقوط وآيلة للوقوع».
التدقيق:
حتّى دراسة خطيب وعلمي، التي صارت هي حجّة الهدم، تقول صراحةً أنّه «لا يبدو أنّ هناك خطراً وشيكاً من سقوط الأهراءات».
يحيى تمساح يؤكّد: «ما بيوقعوا بين يوم ويوم تاني»، فالمُنشأة مصنوعة من باطونٍ مُسلّح، باطون وقضبان حديديّة يصل قطر بعضها إلى 14 ملم. وعليه، إن «انهارت» الأهراءات، سيحدث ذلك بشكلٍ بطيء، تدريجي، سنشاهد تشقّقات هنا وهناك، وستتوسّع التشقّقات، سيتفسّخ الباطون، ستتدلّى بعض أجزائه وتبقى معلّقة بالحديد، ثم تقع، وبعد مدّة طويلة، وبعد الانهيارات التدريجية، قد، قد تنهار إحدى الأهراءات بمكانها…
تُكمل دراسة خطيب وعلمي: «هناك دائماً خطر من احتمال سقوط بعض القطع الخرسانية المعلّقة بشكلٍ غير محكم بواسطة القضبان الحديديّة، وعند سقوطها، ستتسبّب بأضرار موضعية مكان اصطدامها بالأرض تحتها».
طب عال، تفضّلي يا حكومة، اكتفي حالياً بإزالة هذه القطع المتدلّية.
أصلاً، هل من أُناس يتنزّهون داخل الأهراءات مثلاً، وأنّ الأهراءات ستقع عليهم وتفسد نزهتهم؟
بالمناسبة، توصي الدراسة بفرض طوقٍ بقطر 50 متراً حول الأهراءات. هل فُرضَ هذا الطوق؟ فليُفرَض، ولتقع الأهراءات ضمن حدوده، على مهلها.
3. استخدام المساحة
البدعة الحكوميّة:
تربط الحكومة موضوع الأهراءات المتضرّرة بالأمن الغذائي، وتربط الهدم بإنشاء أهراءات جديدة. كما تربط تأخير الهدم بعرقلة إعادة إعمار المرفأ.
التدقيق:
تطلب دراسة خطيب وعلمي المزيد من التقصّي للحسم بشكلٍ دقيق الوضع الإنشائي للأساسات، وتُشير إلى أنّها قد تضرّرت بالفعل، لا بل قد انفصلت صلة بعض الأوتاد بالحصيرة الخرسانية.
د. يحيى تمساح يحسم الجدل: «ما في مجال أبداً لإعادة استعمال الأساسات الأصلاً موجودة […] وعملية إزالتهم أو الشغل ضمنهم شغلة كتير صعبة. بالتالي، هندسياً، وعملياً، هالمنطقة ما فينا نستخدمها بشي».
ينصّ أحد الاقتراحات على نقل الأهراءات إلى مرفأ طرابلس، وفق ما نُقلَ عن الاتّحاد الأوروبي.
بجميع الأحوال، لا يبدو أنّ هناك أي ربط بالمساحة التي تشغلها الأهراءات حالياً، وبالأهراءات المستقبلية. حريّ بالحكومة إذاً أن تبدأ من اليوم بالبحث عن الموقع الجديد وتجهيزه، عوضاً عن اللوفكة وابتزاز المُقيمين بأمنهم الغذائي.
ما بقيَ من الأهراءات لا علاقة له اليوم بالأمن الغذائي، ولا بإعادة إعمار المرفأ.
لا بل، قد تكون الأهراءات، بشكلها الحالي وبعد التدعيم، حافزاً للمزيد من الاستثمار في المرفأ، كنصبٍ تذكاري ومساحة عامة، يتمنّى الكثير من المعماريّين العمل على تطويرها. من هنا أهمية التعاطي مع الأهراءات كجزء من المرفأ، ومع المرفأ كجزء من المدينة، على أساس مخطّطٍ توجيهي شامل، لا على القطعة.
4. التفجير الثاني
البدعة الحكوميّة:
حتّى اليوم، لم يُصارح أي وزير بعد المُقيمين حول طريقة الهدم. يقولون «سنهدم»، فقط. ثم تقول الحكومة أنّ كلفة الهدم أقل من كلفة التدعيم.
التدقيق:
هذه المقارنة مغلوطة، إذ لا يوجد حتّى اليوم أي رقم حول كلفة الهدم ولا أي رقم حول كلفة التدعيم. لم تُحدَّد أصلاً آلية الهدم، ولا آلية التدعيم. لكن مهلاً، هل هدم/ تدعيم الأهراءات سؤال مرتبط بالكلفة؟
على كلٍّ، إليكم آلية الهدم التي يبدو أنّ كل المسؤولين اللبنانيّين أجبن من إعلانها: التفجير.
تفجير مبنى لم يسقط بأوّل تفجير، في 4 آب. تقول دراسة خطيب وعلمي الأولى: «هناك عدّة آليات للهدم؛ بواسطة الكسّارات الهيدروليكية أو المطارق الرافعة، أو قطع الأسلاك بالألماس، أو التحطيم بكرة الهدم، أو عن طريق التفجير الداخلي بواسطة المتفجرات». ثم توصي الدراسة، استناداً إلى الطبيعة الإنشائية للأهراءات، أنّ التفجير هو الآلية الأنسب، وقدّمت شرحاً سريعاً عن آلية التفجير وأرقامها.
في الدراسة الثانية، احتاطت شركة خطيب وعلمي قليلاً، واكتفت بالقول أنّها «أعدّت مسودتين عن آلية الهدم، الأولى تستند على آليات الهدم التقليدية فقط، فيما تستند الثانية على التفجير».
يُجمع الخبراء على أنّ آليات الهدم، ما عدا التفجير، مكلفة وتستغرق وقتاً أطوَل. حتّى أنّ وسائط بعض آليات الهدم غير متوفّرة محليّاً، ما سيرفع الكلفة بسبب استيرادها. فإذاً، إمّا تفجير الأهراءات، من جديد، مع كل ما يستتبع ذلك من صوت وركام وحطام وغبار وضجيج وتروما… إمّا كلفة أعلى بأشواط.
والخياران أحلاهما مرّ. أما من خيارٍ ثالث إذاً؟ بلا. التدعيم والترميم.
ختاماً، تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة الهدم/ التدعيم ليست مسألة تقنية، كما تحاول أن تعمّم الحكومة.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المقال هو جزء من الإجابة على خيار الهدم. هو الجزء المتعلّق حصراً بالشق التقني. ولكن، فعليّاً، قد يكون هذا الجزء هو الجزء الأقل أهميّةً.
فالحفاظ على الأهراءات مهمّة تتعلّق أولاً بذاكرة المُقيمين وبحقّهم في مدينتهم وحقّهم في تقرير مصير مدينتهم.
هي مهمّة تتعلّق بالضحايا وأهالي الضحايا، لا سيّما وأنّ أشلاء من انفجار الرابع من آب لا تزال تحت أنقاض الأهراءات، والعدالة لم تنجلِ بعد.
هي مهمّة تتعلّق بالإرث الأركيولوجي للمدينة، بتاريخها، بحاضرها، ومستقبلها.
هي مهمّة تلخّص الصراع ما بيننا، وبينهم: ما بين جريمتهم، وذاكرتنا التي تأبى أن يُمحى الشاهد الأقرب على الجريمة.