مراجعة سينما
هاشم هاشم

«عائدة» لكارول منصور

رمادُ أمٍّ يُعيدنا جميعًا إلى يافا، وأكثر

30 آذار 2024

قد لا يكون خيارًا أن نولد في منطقة القضايا الكُبرى، حيث علاقتنا بالموت مسكونةٌ دومًا إما بالرعب المطلَق والتفادي، أو بمعاني البطولة والإقدام المدفوع بالرغبة، وحيث السرديّات الكبرى واحدةٌ موحّدةٌ، ومقفلة، ومهيمِنة، وغير قابلةٍ للفتح أو الكسر أو النقاش أو الهشاشة. لكنّ قرار المخرجة كارول منصور- في فيلمها الأخير «عائدة»- تقديم طرحٍ بالغ الحميميّة والهشاشة لعلاقةٍ بديلةٍ بالموت، والشيخوخة، والذاكرة، والعودة، والمقاومة، وحتى «شكل» فلسطين في مخيّلتنا الجمعيّة، يُثبت أنّ لدينا الخيار لتخيّل البدائل، وبالتالي صنعها. 


رحلة عائدة

بلّشْت صوّر لمّا عايدة بلّشِت تنسى، تقول كارول في الفيلم عن أمّها، عائدة رفّول عبّود، التي هجّرَها الاحتلالُ الصهيوني لفلسطين من بلدتها يافا في عام 1948، لتستقرّ في برمّانا ثم بيروت، حيث تزوّجَت من رجلٍ حيفاويّ الأصل هو ميشال منصور، وأنجبَت منه كارول وأخوَيها، قبل أن تنتقل إلى مونتريال في كندا، حيث نراها تصارع الألزهايمر بفكاهة، وعَينَين وادعتَين، وأظافر مطليةٍ بالأحمر. تتبدّل الصورة أحيانًا. يختفي اللون الأحمر عن الأظافر. يهِن الجسد المسنّ أكثر. يخبو الصوتُ ويعتري الإرهاقُ الملامح. تحلّ الرهبةُ مكان الفكاهة. ويقتات النسيانُ على الذاكرة. 

لكنّ حكاية عائدة تبقى نفسها: هي تُريد أن تعود إلى بلدتِها يافا، ولو رمادًا. ما عجِزَت الحياةُ عن منحِها إيّاه، سيمنحها إيّاه الموتُ على أيدي ابنتها كارول وجَمعٍ من صديقاتها بين لبنان وفلسطين (تانيا حبجوقة، أنجيليك عبّود ورائدة طه). إنّه فعلُ مقاومةٍ من تخطيط، وتمويل، وتدبير، وتحريض، وتنفيذ نساءٍ لا ينسَين تعابير الحبّ والعاطفة تجاه عائدة وابنتها، كارول، التي تتابع الرحلة برمّتها عن بُعدٍ من بيروت، ابنةً، ومخرجةً، وحفيدةً مهجّرةً من مدينة أمّها، وعائدةً إليها. حبيبتي كارول، هادا بيت جدّك، تقول الممثّلة والكاتبة رائدة طه لصديقتها كارول عبر شاشة الهاتف، بينما تهمّ بدخول حديقة منزل رفّول عبّود الذي تقطنه اليوم عائلةٌ إسرائيلية، قبل أن تحفر تحت شجرةٍ قديمةٍ مرقدًا أخيرًا لرماد عائدة.

تقنيًا، تتداخل مستويات السرد وتتشابك في تركيبة الفيلم المصوّر بمعظمه باستخدام الهواتف المحمولة، فنرى فيديوهاتٍ مصوّرةً للقاءاتٍ مع عائدة في فتراتٍ مختلفةٍ من حياتها، وصورًا شخصيةً لها مع الأحبّة والأصدقاء في فلسطين ولبنان وكندا، وطبعًا، المغامرة المنقولة مباشرةً عبر الشاشة في الزمن الحاضر لإعادة عائدة إلى يافا.


الذاكرة كترياق

إذا ما أرَدنا كتابة مراجعةٍ تقليديّةٍ للفيلم، يمكن القول إنّه يصوّر رحلة عودةِ رماد عائدة إلى يافا، لتُدفَن في حديقة منزلها، وتُنثر فوق بحر مدينتها، وتسكن مقبرتها إلى الأبد، بجوار أقاربها. ويمكننا القول أيضًا إنّه فيلمٌ يحكي صلابةً تراجيديّةً لشعبٍ لا يَنسى، ولا يكلّ من العثور على طُرُقٍ فريدةٍ وبالغة الإنسانية للمقاومة والبقاء؛ وإنّه يروي لحظات الرحيل الأخير بين أمٍّ وابنتها وبينهما تقف (حاجِزًا أم جسرًا؟) عدسةُ الكاميرا؛ وإنّه يُسائل معنى الهويّة والبيت/الوطن بين الأصل والشتات والانتقال المستمرّ، وأشكال المقاومة المبتكرة والعابِرة للجسد الحيّ؛ وإنّه يُرينا حقائق نادرًا ما نراها عن سابق إصرارٍ وتصميمٍ وبأعينٍ وألسنةٍ فلسطينيّة، مثل يافا المحتلّة اليوم؛ وإنّه يسرد قصّة امرأةٍ تضجّ بالحياة والحبّ والحكايات، من بيارات يافا والسهرات مع الجيران، إلى اضطلاعها بمهامّ حسّاسةٍ مع الصليب الأحمر والأونروا إبّان التغريبة الفلسطينية عام 1948؛ وإنّه يوثّق – بفجاجةٍ أحيانًا، وإن مقصودة – ذاكرةً تذوي وجسدًا يشيخ ويندثر ويغيب حتى قبل أن يرحل، وإن بدَت بعض تلك المشاهد – لخوفٍ في نفسنا ربّما – غير مريحةٍ أحيانًا. لعلّ كارول صنعَت هذا الفيلم – بالإضافة إلى كلّ ما سبق – لأنّها أرادَت لنا جميعًا أن نحمل معها ثِقل الذاكرة والشيخوخة والخسارة، وكذلك انتصار العودة الرماديّة. ونحن لم نملك سوى أن نفعل ذلك بحبٍّ وانفتاحٍ وامتنان.

لكنّ الفيلم هو كلّ ذلك وأكثر، وربّما أجمل ما فيه عاديّته التي تزيده عمقًا، وتضفي استثنائيةً إضافيةً على قضاياه. يعترف الفيلم بالمشاعر والوقائع الصعبة ويُرينا إيّاها بشجاعةٍ وتسليم، من عجز الشيخوخة وخوف عائدة من الموت (تُردّد مرّاتٍ عديدةً أنّها لا تريد أن تموت)، إلى إدراك كارول أنّ أمّها تنساب من بين يدَيها للنسيان والمرض (فتحادثها مطوّلًا وتصوّرها وتحقّق لها أمنيتها بالعودة ثم تصنع فيلمًا)، إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ ليافا وفلسطين (نرى حيواتٍ كاملةً حلّت محلّ فلسطيننا وأهلها). لكنّ التصالحَ مع قسوة الحياة وعاديّتها وهشاشتها لا يعني الاستسلام والتخلّي، بل على العكس من ذلك، هو يبعث في النفس سلامًا ومرونةً وقدرةً لامتناهيةً على الابتكار والمقاومة. كأيّ إنسانٍ عاديّ، لم تُرِد عائدة أن تموت. لكن عندما ماتت، كان موتها العاديُّ بالغَ الاستثنائية، فصنَع ما لم يسبق لأيّ موتٍ بطوليٍّ أن صنع: أعادَها إلى يافا.

في عقدها التاسع، كانت عائدة لا تزال تذكر اسم دكان البوظة الذي كان بجوار منزل عائلتها في يافا، وكذلك اسم الصيدلانيّ الأوحد في الحيّ آنذاك، وهو ما قاد صديقتَيْ كارول للعثور على المنزل بعد 75 عامًا، مستعينتَين بذاكرة أهل الحيّ من مسنّين فلسطينيّين. تتجلّى الذاكرةُ ترياقًا جماعيًا لشعبٍ ربّما فقد الأرض لكن لم يفقد خريطتها، وترياقًا فرديًا لعائدة التي ظلّت تكرّر أمام عدسة ابنتها كارول، «أنا أمّكِ، وأنتِ ابنتي» (بنبرةٍ تميل أحيانًا إلى السؤال). يغدو التذكّر فعلَ بقاءٍ في وجه الاندثار والتداعي، احتلالًا كان أم مرَضًا.


«اللا-عودة» اليوم

في تاريخ 18 آذار الفائت، يوم عيد ميلاد عائدة الـ96، عُرض فيلمها في متحف سرسق في بيروت بالتزامن مع عرضه في أكثر من 46 مكانًا حول العالم. أرادَت كارول أن تُهدي أمّها عودةً يشهدها العالم بأسرِه، فكان لها ما أرادَت. لكنّها أهدَتنا نحنُ أيضًا تأمّلًا بالغ الحميميّة والهشاشة في قضيّةٍ كبرى مشحونةٍ بعواطف وهواجس الماضي والحاضر والمستقبل: في وجه الإبادة الجارية في حقّ فلسطين وشعبنا منذ 76 عامًا حتى اللحظة، كيف نبقى، ونقاوم، ونعود؟ ثم كيف نعيش إنسانيّتنا وهشاشتنا بينما نقاوم تلك الإبادة؟ وكيف نستثمر في أجسادنا وذاكراتنا وإبداعنا حياةً وموتًا ورمادًا؟ 

من شتاتها في الحياة، عادَت عائدة واحدةً موحّدةً في موتها لتتوزّع بين حديقة منزلها في يافا، ومقبرة مدينتها وبحرها، فيَذوب ما تبقّى منها أمواجًا وغيومًا في مدينة البداية والنهاية. هكذا، تكتمل الدائرة. لكنّ شاعريّة العودةِ رمادًا لا تحجب وحشيّةَ الواقع: أنّ شعبًا بكامله هُجّر من أرضه عام 1948 وما زال مشتّتًا في الخارج، محاصرًا ومقموعًا ومقتولًا في الداخل، ممنوعًا من العودة حيًّا كان أم ميتًا. عودة عائدة رمادًا من مونتريال إلى بيروت، ثم عمّان، فَيافا، عبر الحواجز والعوائق، تفضح حجم «لا-عودة» شعبِها واستحالتها. هذا ما ينبغي للعالم أن يتذكّره دومًا.

يُعرض فيلم «عائدة» (إنتاج وبحث منى خالدي، 2022) يوم 17 نيسان في مسرح المدينة في بيروت. يُذكر أنّ إطلاق الفيلم يترافق مع حملةٍ عالميةٍ للتأثير قوامها إنشاء متحفٍ افتراضيّ يسمح لمَن هجّرهم/ن الاحتلال الإسرائيليّ من فلسطين بعَرض مقتنياتهم/ن وقصصهم/ن، والسعي للعودة إلى منازلهم/ن بطرُقٍ مبتكرة، إسوةً بعائدة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود
الجيش اللبناني تسلّم 3 مواقع عسكرية لمنظّمات فلسطينيّة دعمها الأسد
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
21-12-2024
تقرير
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
قتلى في حادث دهس لسوق ميلادي في ألمانيا
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد
21-12-2024
تقرير
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد