عاد الشلل وعاد معه تآكل أجسادنا البطيء والصامت.
عاد الشلل بحلّة عنفية لا تسمح حتّى برفاهية الإحباط والنوستالجيا التي اعتدنا اليها.
عاد الشلل ومعه تقلّباته العاطفية المجنونة: قلق على مصير الأهل والأصدقاء، غضب ثمّ تلاشٍ، إحساس بالذنب وإعادة نظر بالخيارات، شعور دائم بالإهانة والعجز...
أعلنوا الحرب علينا ولكنّنا لم نلبِّ الدعوة. فعاد الشلل.
لكنّ الشلل لم يعُد، فهو بنيويّ ولم يختفِ يومًا، بل فرض إيقاعه على نشاطنا السياسي وحركتنا الاعتراضيّة منذ الـ2011. فبعد كل موسم اعتراض، نُخلي الساحات وقاعات الاجتماعات. البعض منّا يعتكف، والبعض الآخر يتآكل في حلبات العالم الافتراضيّ. هناك من يورّطنا في مغامرات أنانيّة فاشلة، فيما يستمرّ آخرون ببطء وإرهاق بالنضال اليومي الروتيني. ويعود الإحساس بالشلل.
رغم نجاحات بعض التجارب التنظيميّة في بلورة خطاب مضادّ، لا سيّما على المستويات السياسيّة والطلابيّة والإعلاميّة والحقوقيّة، إلّا أنّنا نعود إلى استنتاجنا الأوّلي، أي فشلنا في بلورة بديل سياسي حقيقي يرتكز إلى قواعد اجتماعية متينة.
فالوقت «الضائع» بين موجات الاعتراض لم يُستثمَر لإعادة بناء الأطر التنظيميّة المفكّكة، من خلال إنشاء أحزاب جديدة أو استرجاع النقابات أو تجديد منظومتنا الفكرية والنظرية.
يعود هذا الشلل لأسباب عديدة، من بينها بنُية نظامنا الاقتصادي الذي ندفع ثمنه مرّتين. المرّة الأولى عبر تخييرنا بين الخضوع للزبائنيّة أو الارتهان لشروط السوق الوحشيّة والهجرة. أما الثانية، فهي من خلال إرغامنا على دفع ثمن انهيار النظام على رؤوسنا. فوحشيّة هذا النظام الاقتصادي شلّت قدرتنا على الحركة بسبب هاجس تأمين لقمة العيش، وجعلت من التفرّغ للعمل الجماعي والسياسي في السنوات الماضية أمراً صعبًا.
في ظلّ هذا الشلل البنيوي، جاءت الأزمات لكي تنقذنا من سطوته، وتجعلنا نتّكل عليها. فتأتي الأزمات الموسمية لتحثّنا على الحركة كلّ مرّة، بدوافع تمزج بين الحسّ بالمسؤولية والخوف من ضياع الفرصة. ومع الوقت، باتت تحرّكاتنا مرتبطةً بإخفاقات النظام وأزماته. فبتنا نحن نتلقّى المعارك ولا نستطيع فرض الأجندات. ننتظر الكارثة تلو الأخرى، من التمديدَيْن للمجلس النيابي، إلى غرق البلاد تحت جبال النفايات، وصولًا إلى الضرائب التقشفيّة. وفي كلّ مرة، نعوّل على يقظة شعبيّة تعيد خلط الأوراق وتنقذنا من شللنا.
وصل بنا الشلل إلى ذروته في صيف الـ2019 مع ارتسام ملامح الدولة البوليسية واتضاح مأزقنا الاقتصادي، وتفشّي الخطاب العنصري والطائفي والذكوري والهوموفوبي. فاختصرت مقاومتنا آنذاك بتظاهرات مناهضة للعنصرية وداعمة لحريّة التعبير وحفلة موسيقيّة تتحدّى قوى الظلام. ثمّ أتت 17 تشرين. وظننا أن معجزة تلك الانتفاضة الشعبيّة التي خرجت من رحم هزائمنا، حرّرتنا من شللنا نهائيّاً، حيث فرض الناس غير المنظّمين سياسيًّا أمرًا واقعًا وإيقاعًا جديدًا للّعبة السياسية، ورسموا أفقاً واسعًا للممكن السياسي. بيد أنّ اتّكالنا على الأزمات كان له ثمن. فدخلنا إلى الثورة فاقدين لأي تنظيم أو رؤية أو خارطة طريق. وبدأت الانتفاضة تنطفئ بعد نيل حكومة المستشارين الثقة.
دفعنا ثمن اتكالنا على الأزمات. وحتى رهان البعض على «ثورة جياع» قد تندلع مع وصول الدولار إلى الـ3000 لم يتحقّق. فالانهيار لم يُعِد إشعال الثورة. لا بل كرّس شللنا، وبات عنوانًا لضعفنا.
لا يفيد التأمّل بالشلل، إلّا للاعتراف ربّما بالمأزق والإسراع في حسم خياراتنا. فنحن اليوم في حرب، ولا خيار لنا إلا المواجهة. فالبديل هو المنفى أو السجن أو الموت البطيء جوعاً وقهراً. نحن مرغمون على إنجاز اليوم ما لم نستطع القيام به بالأمس، ولكن بسرعة وحكمة وشجاعة وسط الجوع والعتمة. الورشة عملاقة: تنظيم قاعدي، إنشاء الجبهات والتحالفات، توزيع الأدوار، ردّ الضربات، فرض المعارك، إعادة هيكلة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة عبر شبكات الأمان، التجدّد النظري والفكري، حماية ما تبقّى من حريّة، والتمسّك بالحبّ والشغف رغم كلّ شيء...
فلنتشبّث بالحلم لأنّه لم يعد لدينا ما نخسره. ولنكرّس التضامن في زمن التآكل والأنانيّات. ولنستمدّ القوّة والرغبة بالثأر من نظرات أهالينا المطفأة.