عدت إلى منزلي ذات ليلةٍ وتوجّهت مسرعةً نحو مكتبتي. تناولت ملفاً أحتفظ فيه بأوراقي الرسميّة، وامتشقت منه- بكلّ عنايةٍ- شهادة إجازتي من الجامعة اللبنانية (التي بالطبع حصلت عليها بعد سنتين من تخرّجي):
قرأتها من جديد. مختومة وموقّعة مِمَّن عليهم توقيعها. تفحّصت الوجهين. لم أجد أي إجازة أخرى تحلّل التحرّش بنا؛ واسمحوا لي أن أشمل بـ«نا الجماعة»، خرّيجات المسرح ممثّلات كنّ أم عاملات في الوسط الفنّي. انتابتني عندها أعراض أزمة وجودية. لطالما اعتقدت أنّنا أوتوماتيكياًّ عند تخرّجنا كفنّانات عموماً، وممثّلات خصوصاً، يصبح التحرّش بنا أمراً طبيعياً وأكثر لذّةً لدى المتحرّش.
في الآونة الأخيرة، فضحت أعداد كثيرة من المتحرّشين في الوسط الفنّي وبقي العديد منهم مستورة أفعاله. أنا من الطالبات التي لم تتعرّض للتحرّش من قبل أساتذتها على الأقلّ في حرم الجامعة أو حتى خارجها. لم يخلُ الأمر من بعض المضايقات (إن كان لفظ «تحرّش» يخدش نظر القرّاء) من عاملين في الوسط من ممثّلين، مخرجين، مهندسي صوت، إلخ...
لكنّ الظاهرة الأغرب هي التحرّش الذي نتعرّض له من قبل أفراد لا ينتمون إلى الوسط، بمجرّد علمهم بخيارنا المهنيّ/الجامعيّ لأن هيدي بنت متحرّرة والأجمل ساكنة وحدها. بين التلميح والتصريح، التحرّش اللفظيّ والجسدي، من الصعب أن تعثر على فنّانة لم تتعرّض لأيّ نوع من المضايقات، ليس فقط لكونها فنّانة، بل لكونها أنثى تتمتّع بفكر مختلف عن باقي النساء، يترجمها البعض بالحق على الـvibes تبعك.
مهما كنّا نتمتّع بشخصيّة قويّة ترفض التنازلات والله يساعده اللي بيعلق بلسانك، نقف أحياناً عاجزات عن الردّ (لأسباب عديدة يفسّرها علماء النفس بأسلوب أفضل منّي) حائرات بين أجوبة لمعضلة، لو ما زال فرويد- صلّى الله عليه وسلّم - على قيد الحياة، لكان ختم مسيرته بمسك نظرية إرتباط محفّزات التحرّش بإجازة المسرح.
«اعتذار» متخيّل لمتحرّش فعلي
هذا المقال ليس رسالة توعويّة ولا علاجاً من خلال الكتابة. دعوني أصفه بإجتماع لعدد غير خجول من العاملات في الوسط الفنّيّ غير المبتذل (بعيداً عن سجال تصنيف الفنّ بالهابط أو الراقي) اللواتي قد تعرّضن لأي نوع من أنواع المضايقات اللفظيّة والجسديّة.
أعتذر منكِ أشدّ اعتذار. حتى لو أنّ الاعتذار يبقى غير كافٍ في بعض الأحيان...
أعتذر بالنيابة عن كلّ المتحرّشين.
أعتذر لأنّ خياركِ المهنيّ يغريني ربما لأنّ مجتمعنا لا يزال يعرّف الممثلات بالأرتيست. ولأن الأرتيست بحسب دولتنا العلياء
هي المرأة التي تمتهن العمل في المقاهي والنوادي والمسارح، مغنية أو راقصة، وتجالس الرواد من دون تعاطي الفحشاء. وعلى صاحب المسرح والمقهى ونادي الرقص إخبار الشرطة عن أسماء الارتيستات المشتغلات عنده 1 ،
اعتقدت أنّه واجبٌ على الجامعة أيضاً التصريح عن أسماء المتخرّجات بإجازة مسرح سنويَّا كي أستطيع اختيار فريسة أفرغ فيها رغباتي المرضيّة من دون اذنها.
أعتذر لأنّي استدرجتكِ بحجّة قريت هالكتاب وتذكّرتك أو مش عم شوف غيرك بهالدور.
أعتذر لأنّي أشعرتكِ بالأمان عندما طلبت لقاءك على فنجان قهوة بـRoy’s هيك بتكوني بملعبك. لكن أنا فين والأمن فين؟
أعتذر لأنّي سمحت لمخيلتي أن تعطيني ضوءًا أخضر للمسك بكلماتي ويديّ.
أعتذر لأن جرأتكِ، ثقافتكِ، حيويّتكِ، استقلاليّتكِ، طموحكِ، حرّيّة فكركِ، تحدّثكِ بطلاقة عن الجنس، العلمنة والعقائد... هيّجت رجولتي المفقودة.
أعتذر لأن ما رح تنجحي المادة أو ما رح تاخدي دور حياتك إلا إذا...
أعتذر لأن سوري ما قدرت.
أعتذر لأن غريبة إنت يا بنت.
أعتذر لأن أنا هيك بعبّر...
أعتذر لأنّ عذري أقبح من ذنبي.